وطنُ العلّاق.. ماء للطيور وديك الجن
يقول الشاعر الألماني «هولدرلين»: «يبقى على الأرض ما يتركه الشعراء». فهل الشعر مهيأ للإجابة على أسئلة فلسفية وجودية، أو ما قبل الوجود؟ هل اتخذ الشاعر العراقي علي جعفر العلاق نمط التساؤل ليبرز حقائقه التي يؤمن بها؟
قد لا تهمّنا تشكيلات الأسئلة رغم إرهاصاتها الفكرية، وتدافعاتها التاريخية لفكرة ما حدث، وإلى ما حدث بعد ذلك.
لكننا نحاول في هذا الاستشفاف لرؤى الشاعر، لبلورة فكره المتقد، ولخارطة تقوم على هندسة مشهدية، وليست الهندسة هنا تعني أن البوح يُشتغل عليه كحياكة ثوب؛ يستوجب التدقيق والموازنة بين الجمل أو انتقالات الصور الجمالية المُعبّر عنها...إلخ، وإنما هندسة ذاتية، ذات بوصلة تنساق لعاطفة الفكر وجمالية التعبير، دون تكلّف أو ولادة صعبة، وهذا التمييز لا يعني انتفاء «الشعر» عن الكثير من الشعراء الذين نرى الاشتغال في تركيبة شعرهم، إلا أنه يُبين لنا تخلّق الشعر في ذات الشاعر الموهوب الخلّاق في ذاكرته الباطنة وانسيابية المعنى.
وللاقتراب من عالم علي جعفر العلّاق الشعري؛ رحت أنقب عن أروقة خصبة وما أكثرها في بوح شاعر مخضرم، فكانت قصيدة «وطن لطيور الماء» التي توقفت عندها طويلا:
«وطنٌ لطيور الماء»
هذي الليلةَ، أفرشُ ثوبي..
أتعاتبُ والوطَنَ الضيّقَ..
أدخلُ أيّامَ الشُّعَراءِ المكتَئبينَ،
ويدخلُ أيّامي الشعراءُ المكتئبونَ،
ونخلِطُ وحشَتَنا.
تفصِلُني عنكَ ثيابُ العَتَبِ الناحلِ
مثلَ الماءْ..
أيَضيرُ الوطَنَ المتسامحَ
أن يلهوَ بينَ الفقراءْ؟
وطنَ الماءِ..
أُثرثرُ باسمكَ ساعةَ يَندى الليلُ الموحشُ
في الساحاتِ، أثرثرُ باسمِكَ إذ تشحُبُ
حِصْرانُ المقهى،
يتسلّقُ مصْطبتي البرْدُ..
وأحلُمُ لو تأتيني، الليلةَ:
أبيضَ كالنجمةِ..
تخرجُ من كوخٍ أبيضَ
يقطرُ من قدميكَ الطينْ..
نتعاتبُ، نشبكُ أيديَنا،
ونُؤالفُ ما بينَ الأوطانِ المهمومةِ
والأبناءِ المهمومينْ..
شجَرٌ للأوراقِ المرّةِ، والأخطاءْ
قمَرٌ ملتَهبٌ، مهمومٌ، قُربَ الماءْ..
قُمصانٌ تُفرَشُ، مصطبةٌ
تَشحُبُ في أيّامِ البردْ..
وأنا، الليلةَ، كم يُعجبُني أنّ أتغنّى،
بمفاتِنَ غيرِ محرّمةٍ،
وطيورٍ
لم تهبطْ بعْدْ..
آهٍ لو يأتيني الليلةَ
أفرشُ ثوبيْ، نتعاتبُ
هل يأتي وطَنٌ دونَ ضجيجٍ؟
دونَ شتائِمَ للأبناء المهمومين؟
سأشهقُ حينَ يجيءُ الليلةَ
أفتحُ قُمصانيَ للريحِ،
وأهتفُ، منتشرًا، كالماءْ:
هذا الوطَنُ الواسعُ جاءْ
أبيضَ كالفضَّة، مبتلًا عَذْبًا كطيورِ الفقراءْ..
يحمِلُ قمصانًا للجرحى،
وأضابيرَ سيهبط منها
المنفيّونَ
الأطفالُ
الريحُ
الشُعراءْ..
لا أدري لم تشربت قراءة هذه القصيدة، بطعم الشعر الشعبي «العراقي»؟! كيف يمكن أن تحتلك قصيدة شعبية وأنت تقرأ قصيدة وهي بنت شرعية لشعر عربي فصيح أصيل!
هل للعتبة «العنوان» توهج يصفو في عين المتلقي وسمعه؟ ويمسك بتلابيبه؛ أن اقرأ ما يُذكي نخوة التبصر بحال وطن، شاء الشاعر أن يقتطع منه جزءا، يرسله للنقطة الفاصلة في ذاكرة مبللة، بين مزيجين في قالب واحد «وطنٌ لطيور الماء»، هل أراد الشاعر خلق الدهشة في تركيبة وعي الإدراك لرسم إرشادي قلق! فالوطن مكان جغرافي ثابت، بالشكل الذي نعرفه، لكنه في الوقت نفسه تنحّى من خلال إسقاط مدمج مع وصف وظيفي، وأول هذا الإدماج؛ إفراغ مؤقت لكينونة «الوطن» بجعله مفردة «نكرة»، والتنكير مفهوم مباشر لاتساع أفق الاحتمالات التي قد تذهب إلى التشظي المدروس! ولعلنا ندرك أن المعنى الشفّاف لكلمة «المدروس» أن تنكير «وطن» لم يُترك بشكله، وعُجّل بتلقيمه وصفا معرّفا «طيور الماء»، بلام التخصيص التي كانت بمثابة لاعب «رأس حربة» ينقل الكرة بسرعة لاختراق جبهة الخصم، يخلق من تنكيره معرّفا، أدخل نفسه بقوة في تعويض وظيفي، فأصبح الماء هو «الوطن» في تشابك ظاهري، خُلّق بتكامل متدفق في مساحة ضيقة لاستنطاق أشمل للمعنى، وأرحب للصورة الجمالية.
هذي الليلةَ، أفرشُ ثوبي..
أتعاتبُ والوطَنَ الضيّقَ..
أدخلُ أيّامَ الشُّعَراءِ المكتَئبينَ،
ويدخلُ أيّامي الشعراءُ المكتئبونَ،
ونخلِطُ وحشَتَنا.
تفصِلُني عنكَ ثيابُ العَتَبِ الناحلِ
مثلَ الماءْ..
أيَضيرُ الوطَنَ المتسامحَ
أن يلهوَ بينَ الفقراءْ؟
مبتدأ القصيدة حالة أرادها الشاعر محط جذب للقارئ، ولأجل هذا الجذب رقّق في استخدام اسم الإشارة، فكانت «هذي» أكثر تلميحا للقرب من «هذه»، عوضا عن الوزن، لكني أرى محاولتي فك شيفرة المعنى الأقرب لعالم الشعر الخفي.
ربما والقارئ معي؛ يلاحظ أن هناك اشتباكا سريعا حدث في بدء الكلام، دون تمهيد أو استطلاع تصاعدي في مقدمة تشير إلى التحلل من الضغط النفسي، فما كان افتراش الثوب إلا تعبيرا عن نزع وافتضاح ما يُخفي داخله، ناهيك عن أن افتراش الثوب يعدّ سلوكا واضحا وكاشفا عما تؤول إليه ماهية الافتراض، أيكون افتراش الثوب «الهم» جلدا للذات في عدم الجلوس إلا من هيئته! وكأن الأمر سجال في مفاوضات أو مكاشفة، طرفاها شاعر محمل بهمومه ووطن يضيق على أهله.
ومحل الافتراض لصفة الشاعر جاء أولا؛ بإبدال الهمّ في كينونته المعنوية بالكينونة المادية «الثوب» في دلالة على اقتدار التأويل والتورية، وخصّ ذلك بخصوصية المعنى في إفصاحه «ثوبي!»
وثانيا؛ المعادلة الطردية التي نشأت من قوله:
أدخلُ أيّامَ الشُّعَراءِ المكتَئبينَ،
ويدخلُ أيّامي الشعراءُ المكتئبونَ،
ونخلِطُ وحشَتَنا.
هناك تصالح متفق عليه رغم جوّ الكآبة والضيق، ومقاومة تغريب الروح، علاوة على أن هناك ديباجة فلسفية لنسق المعنى، فنجد أنا مفردة «وحشتنا» تُفعل زر الخوف والانتباه، في حين أن الخلط يباشر في إنتاج عملية كونفدرالية، تستنسخ معنى للطمأنينة!
تفصِلُني عنكَ ثيابُ العَتَبِ الناحلِ
مثلَ الماءْ..
أيَضيرُ الوطَنَ المتسامحَ
أن يلهوَ بينَ الفقراءْ؟
بطريقة ما؛ انتزع الشاعر الحال من سياق الكآبة إلى انزياحات أفقية متعددة، وهذا يفسّر التّشاكل العلوي في مقدمة القصيدة، وهو تشاكل تصويري في نوعه، لازم في شرعنة التحول المفاجئ من الوحشة إلى الصوت الواحد، بل إلى الصوت التنظيري من الضيق «الشاعر» إلى الواسع «الوطن»، وسمة هذا الصوت هو تراتب في تبريره، بإيجاد مسوّغ الفصل، وإطلاق مسمى حركي ووصفي يمتاز بالانتشار والمرونة في الانتقال «الماء»، وهذا ما أنضج فكرة الانتقال من التصوير إلى فكرة التنظير بل والتقريع، لكن بشكل موارب من خلال طرح احتمالية الاستفهام بدل احتمالية التعجب، فكان ذلك في قوله:
أيَضيرُ الوطَنَ المتسامحَ
أن يلهوَ بينَ الفقراءْ؟
وكنوع من التلاعب الحسي يُشاغب الشاعر في إحداث اضطراب نسقي، بشكل يجعل نتيجة التنظير لصالحه، فمن العتاب الصريح إلى بيان الانسلال بوصف «ثياب العتب الناحل» وصولا إلى إضفاء صفة «التسامح» رغم أنها جاءت في إطار المشاغبة المتأرجحة بين اللؤم والعتاب.
أُثرثرُ باسمكَ ساعةَ يَندى الليلُ الموحشُ
في الساحاتِ، أثرثرُ باسمِكَ إذ تشحُبُ
حِصْرانُ المقهى،
يتسلّقُ مصْطبتي البرْدُ..
وأحلُمُ لو تأتيني، الليلةَ:
أبيضَ كالنجمةِ..
تخرجُ من كوخٍ أبيضَ
يقطرُ من قدميكَ الطينْ..
نتعاتبُ، نشبكُ أيديَنا،
ونُؤالفُ ما بينَ الأوطانِ المهمومةِ
والأبناءِ المهمومينْ..
عمد الشاعر إلى استغلال اللحظة التي حاول في لغته التنمّر بمستوى خافت وغير ظاهر، بتنحية «ياء المخاطبة» والمحافظة على وظيفتها من جهة، ورشاقة المعنى من جهة أخرى، الذي هو في حقيقته ترقيق صوتي نستشفه من الحركة المبطنة بتواري «ياء المخاطبة» لصالح المباشرة.
هل كتب «العلّاق» رعويته المتشبثة بالفكرة في تشكيل فصيح؟ هل تغنّى بدارميته العراقية، فكان الأبهى أن تلبس ثوب الشعر؟
هل كانت أنوية الرعوية تتوارى تارة خلف معان تتأرجح بين التشاكل تارة وبين المطابقة تارة أخرى؟
«حصران» «مصطبة» «كوخ» «طين»، «نشبك أيدينا» «الأبناء المهمومين»؛ تخصيب لغوي وتحديث حيوي للغة فصيحة مكتوبة بنكهة صوت شعبي متخيل، يطرق الأسماع بنية التواصل المنجب للمعنى المراد.
ولا غرابة إن تميز هذا الصوت بتكراره «الثرثرة»، في إشارة إلى تكرار الصورة المتسعة في قوله:
«الليلُ الموحشُ
في الساحاتِ»
و
« تشحُبُ
حِصْرانُ المقهى»، مع أن المعنى الظاهري يضيق! حيث ضيّق تركيبة الصورة وفي نفس الوقت كان الاتساع في هيمنة ذكر « أُثرثرُ باسمكَ».
شجَرٌ للأوراقِ المرّةِ، والأخطاءْ
قمَرٌ ملتَهبٌ، مهمومٌ، قُربَ الماءْ..
قُمصانٌ تُفرَشُ، مصطبةٌ
تَشحُبُ في أيّامِ البردْ..
وأنا، الليلةَ، كم يُعجبُني أنّ أتغنّى،
بمفاتِنَ غيرِ محرّمةٍ،
وطيورٍ
لم تهبطْ بعْدْ..
آهٍ لو يأتيني الليلةَ
أفرشُ ثوبيْ، نتعاتبُ
هل يأتي وطَنٌ دونَ ضجيجٍ؟
دونَ شتائِمَ للأبناء المهمومين؟
هل كان «العلّاق» ينشد بصوته «هوسة» عراقية، أم موالا يناغي فيه قصيده؛ عله يخفف من أنين البوح وملذّة تكوين هذا الأنين بطعم حزن مُوصل لتيارين بدءا من أول القصيد؛ الوطن والعتاب، إلى التّغني بالشجر والقمر والماء، جاعلا من الليل زمنا لهذي الذاكرة الطرية!
لم يرد الشاعر أن يتمثل شعره بالأمنيات أو بالحركية في قوام الفعل المضارع، لكنه هنا مارس التصريح بالوصف، وكأنه يطلق حقائق مؤكدة.
إن التصور للفكرة ليس في إبرازها بقالبها المباشر، بل خلق قالب يعايش مآلاتها ويسهم في إيجاد حاضنة لطبيعة النص وفلسفة التأويل، في مفترقات نلاحظها جليّة.
هناك تكوين ثلاثي ملموس ضمن معمارية متنقلة، (الليل- الهم- الماء) وعرفنا ذلك بكثرة تكرار القول سواء بشكل تصريح أو بتفرعاته التصويرية والتركيبية للمعنى، لكن الثابث في هذا التكوين هو الماء، والذي أراد به الشاعر استغلال الوظيفة العضوية للماء «الإحياء» وفي هذا القصيد حرّك كينونة الماء في ثلاثة صور:
«تفصِلُني عنكَ ثيابُ العَتَبِ الناحلِ
مثلَ الماءْ..»
« شجَرٌ للأوراقِ المرّةِ، والأخطاءْ
قمَرٌ ملتَهبٌ، مهمومٌ، قُربَ الماءْ..»
« وأهتفُ، منتشرًا، كالماءْ»
هذا التكوين الثلاثي شكّل مفهوما رمزيا متآلفا مع حركية الصور ولغة المعنى «وطن الماء»، مع الأخذ بالاعتبار إعادة تدوير المعنى في صوغ يتناسب مع حركية الصوت الشعبي المشار لها.
سأشهقُ حينَ يجيءُ الليلةَ
أفتحُ قُمصانيَ للريحِ،
وأهتفُ، منتشرًا، كالماءْ:
هذا الوطَنُ الواسعُ جاءْ
أبيضَ كالفضَّة، مبتلًا عَذْبًا كطيورِ الفقراءْ..
يحمِلُ قمصانًا للجرحى،
وأضابيرَ سيهبط منها
المنفيّونَ
الأطفالُ
الريحُ
الشُعراءْ..
وكأن الشهقة فعل مناداة مشروط بتوقيت محدد، فمفردة الليلة تكررت خمس مرات بنفس هيئتها المعرفة، في إشارة لزمن حدوث واحد، ولأجل هذا البوح الأخير؛ كشف الشاعر هوية قصيدته، ونثر ما كان يُخبئ طواعية، دليلها قوله:
«أفتحُ قُمصانيَ للريحِ»، لم يستخدم فعل إجبار كـ «أشقّ» أو «أنثر» أو «أبعثر» ....الخ، من الأفعال التي تفيد الإرغام أو عدم التحكم، وجاءت مفرد «الريح» ملائمة لمفردة «منتشرا».
لو تُستخدم «لو» في المقطع الأخير، ليس لانتفاء التمني، بل لانتفاء تعذر التمني بتحقق الفعل والصفة.
كان يمكن أن نتشاغب في معنى كلمة «أبيض»، فكثيرة هي معانيها، لكن وصف «أبيض كالفضة» أخرج الكلمة من دائرة التأويل، وجعلها محصورة في دائرة اللون فقط، ذلك لأن من معانيها (الفضة!)
هذا الوطَنُ الواسعُ جاءْ
أبيضَ كالفضَّة، مبتلًا عَذْبًا كطيورِ الفقراءْ..
يحمِلُ قمصانًا للجرحى،
وأضابيرَ سيهبط منها
المنفيّونَ
الأطفالُ
الريحُ
الشُعراءْ..
إنها ميكانيزم الأوطان المتوجعة، واختيار رافلة ذات نتيجة واقعة « يحمِلُ قمصانًا للجرحى»، ثم يحدث فعل تفعيل الذاكرة التي موجدها هو الفعل العام المختبئ، وجعل «أضابير» تجسيدا للفعل، ليتولد من هذا الإبطان المقصود رمزية اختار فيها الشاعر تلصصا تصويريا خلفيا لذاكرة الفعل العام، بقسوته، خلافا للمقاطع السابقة التي كانت «لو» قوامة للتخيل، لكنه هنا نقل أفق مشاعره من التخيل والتوقع إلى الإثبات بـ«سيهبط منها، فكانت الإفرازات اختيارا موفقا؛ أربعة من المتخيل المثبت:
المنفيّونَ
الأطفالُ
الريحُ
الشُعراءْ ...
ولأن شاعرنا الجميل يُفرد قصص ومرايا أخرى في شعره؛ نقترب من قصيدة «ديك الجن»، لتأخذنا لمكان آخر، وبنكهة إبداع آخر.
ديكُ الجنّ
هذا رمادُ امرأةٍ أم كأسْ؟
هذا هو يجتاحُني
كالحُلْمِ
أم كاليأس؟
وأين تُمْضي الشَّجَرةْ
عزلَتها المنتظرةْ؟
في الندمِ الوارفِ مثلَ غيمةٍ
أم في انتظار الفأسْ؟
يقول «روبرت ستيفنسون»: « إن مادة الشعر هي كلمات، وهذه الكلمات هي لغة الحياة الحقيقية، والشاعر يحولها إلى شيء سحري».
ولأن العنوان عتبة النص، فإني أرى أن «ديك الجن» عنوان الأحجية، وذو طاقة إيحائية، أهو وِرد تراثي أم منبت إيحائي أسطوري!
فبعض النصوص لا تفك شيفرتها من النص ذاته، بل من الجو المقترب منه.
هذا رمادُ امرأةٍ أم كأسْ؟
سؤال يصطنع منه الشاعر علي جعفر العلّاق تقابلا لافتا أو مقارنة قد يراها البعض غريبة، فما علاقة «رماد امرأة» بـ «كأس»، ناهيك على أن المقارنة جاءت بين «رماد» كحالة أثر مرئي محسوس ونتيجة تفاعلية لحالة صراع، وبين «كأس» كحال وصف لرؤية شيء يحتوي سائلا!
وما قولي بأن مفردة «رماد» تمثل حالة صراع، إلا استشعارا بأنها تمثيل لما بعد الموت، لكنه ليس موتا بمفهومنا المعتاد، هو موت مبجّل...
هذا السؤال يفتح المجاز على اتساعه، فتأتي العلاقة الاحتمالية بينهما، لأثر تفاعلي لا نراه بل علينا الإحساس به، ليس لنتحول إلى «شارلك هولمز» للتنقيب عن المعنى، بل إلى مستشعر لمعنى «التشظي اللذائذي» للمتذوق والقارئ الحصيف والمتأمل.
وهو سؤال مستفز حافل بتفاعل ممغنط في ذاته، آخذا في التمدد.
لكأن الإجابة في شكلها التساؤلي جَرح أحدثه الشاعر، أراد نفضه كالذي ينفض الحبر، ليكتب من جديد، فكانت نكهة الإجابة متداخلة في السؤال، تتقلب بين المقابلة والمقارنة.
هذا هو يجتاحُني
كالحُلْمِ
أم كاليأس؟
هذا الجَرح في السؤال تمخض عنه جَرح في الإجابة المتخفية، ما أنتج مناجاة خفية، تصاعدت بـ «هوى يجتاحني» وأقر انكسارا تكوينيا، تارة بالحلم وتارة باليأس!
لقد أتقن الشاعر تقوية المعنى بالبعد عن الترهل القصري إلى الإتقان المجازي الذي رفع المعنى لسمو الانعتاق من السلبية المرئية إلى لغة حية رافعة للفكرة والمعنى معا.
يقول شكسبير: «إننا مصنوعون كما الأحلام، من المادة نفسها» وهذا ما يوجد شعر «العلّاق:
«وأين تُمْضي الشَّجَرةْ
عزلَتها المنتظرةْ؟
سؤال ثالث يتفاعل مع مخيلة الشاعر، يضفي على الروح معنى حسّيّا، يحاول إيجاد إيقاع موسيقي مناسب، بلغة شفافة، من خلال إحساس في الجو العاطفي للنص.
وقبل التساؤل الأخير، يتولد تساؤل داخلي مشروع: لماذا هذا الحزن المملوح؟
في الندمِ الوارفِ مثلَ غيمةٍ
أم في انتظار الفأسْ؟
إن وجود مثل هذه التساؤلات وهي المكونات الأربعة للنص، تأتي تمثيلا تصويريا، كينونته القلق الشعري!
ونرى ذلك في التجاذب بين مختلف الإيقاعات اللفظية: (رماد امرأة-حلم-يأس-عزلتها- الندم-انتظار الفأس).
وملاحظة التوافق اللغوي في ممارسة التوليف النفسي بين:
كاليأس~ انتظار الفأس
فكاف التشبيه جاءت مؤدية لمعنى مفردة «انتظار».
رغم قصر النص الشعري إلا أنه يمثل وجبة شعرية ممتلئة من ناحية مخاطبة النفس البشرية، ولهذا كان الإيحاء المتخفي بأسئلة موجعة ومراوغة في إجابة تحمل صيغة السؤال أيضا.
وبنظرة أخرى وكأن الحكمة تتسلل لمقاصد النص، بشكل أو بآخر!، أراها لحظة من حرية الانفتاح والتحليق في الشعر، ونواته الإجابات المتسائلة.
إنني أرى في هذا النص محتوى إنسانيا مرهفا، رغم جفاف ما، قابله التقاط جو منعش من خلال ضخ مفردات مؤنسة كـ (هوى-كالحلم-غيمة)، وهو ما جعلنا نشعر بالتأمل تارة والجذب ومتعة إقامة العلاقات بين لحظات الأسئلة والأجوبة المتسائلة تارة أخرى.
الصوت في هذا النص واضح، يضيف للنبرة جوّا تأمليا آخر، في طريقة الإلقاء مثلا وكذلك نبرة الإحساس لإيصال ما يريده الشاعر.
أرى في الأسئلة اشتباكات، فتحت عملية التأويل للنص، لإنجاز عدة دلالات وآفاق رحبة.