العمانيون والعناية بالتاريخ والمعرفة
يعتني العمانيون بتاريخهم كثيرا فهو أحد أهم مصادر بناء هُويتهم الوطنية، ومصدر أساسي في بناء الشخصية العمانية التي تستمد من دروسه وعِبره الكثير من سياساتها ومبادئها وقيمها وترسم عبر فهمه العميق مسارات مستقبلها. وهذا التاريخ بكل مفاخره هو، أيضا، أحد أسباب اتزان سمت الشخصية العمانية واعتدالها. وهذا ليس استثناء للعمانيين فقط، فكل الشعوب والأمم التي لها تاريخ عريق تستمد منه قيمها ومبادئها وتستعيده في آدابها وفنونها الأمر الذي يعطيها الكثير من الميزات على شعوب أو أمم طارئة ما زالت تبني أبجديات تاريخها لتؤثث به مستقبل أجيالها القادمة بعد عقود أو قرون طويلة. لكنّ هذا الفخر وذلك الاعتزاز وهذا التمثل الحياتي اليومي للتاريخ العماني بكل مفرداته المادية والمعنوية لا يكفيه وحده للحفظ والاعتناء؛ فالمؤثرات الموازية التي تحيط بنا كبيرة جدا وتملك قوة مرتبطة بالعولمة الاقتصادية والثقافية والثورة التكنولوجية الإعلامية. الأمر الذي يتطلب جهدا نوعيًا أكبر لدراسة التاريخ العماني وقراءته بمناهج مختلفة. وتملك عُمان اليوم قوة في عمق ذاتها، وفي هُويتها ومفرداتها المستمدة من تاريخها الذي صنعه أبناؤها عبر حقب تاريخية طويلة جدا، ورغم أن هذه القوة من نوع «القوة الناعمة» إلا أنها شديدة الفعالية وقادرة على صناعة حوائط صد ضد أي مد ثقافي خارجي موجه لإحداث تغيرات مقصودة. فقط نحن في حاجة إلى تفعيل مفردات القوة التي نمتلكها. لا أحد يقف ضد التبادل الثقافي والحضاري فهو مصدر قوة؛ واستفادت منه عُمان عبر تفاعلها الإيجابي مع مختلف الحضارات، خاصة الحضارات الشرقية والحضارات الأفريقية. وتفعيل مصادر القوة العمانية «الناعمة» لا يكون فقط عبر المؤسسات الحكومية، رغم أهمية دورها وأساسيته، ولكن عبر كل أفراد المجتمع وبشكل خاص النخب الثقافية والعلمية المنوط بها بث روح الحياة في كل مفردات التاريخ العماني المحيطة بنا عبر الدراسات التاريخية والآثارية وعبر الروايات الأدبية والسرديات الوطنية وإعادة الشعر ليكون ديوان العرب عبر تمثله للإنسان وفلسفته الحياتية اليومية ومعاناته.. وعبر المسرح، والمسلسلات التلفزيونية. هذا لا يعني أن ينكفئ الجميع في التاريخ، ولكن التاريخ ليس شيئا من الماضي وللماضي، والمعنى الذي نريده للتاريخ ليس هو كل ما حدث في الأمس، ولكن ما نبحث عنه هو كل ما يمكن أن يكون امتدادا لليوم وللغد في سياق معرفي متصل يكسب كل شيء حولنا صلابة وقوة. أينما تسير في عُمان تجد شواهد التاريخ حاضرة، في القلاع والحصون وفي نظم الأفلاج التي شقها العمانيون لتكون شرايين حياة لحضارتهم، وفي الأضاميم التي تزين «روازن» البيوت، وفي عشرات الآلاف من المخطوطات التي تمتلكها المؤسسات المعنية في الدولة ويتملكها المواطنون في منازلهم ومكتباتهم الخاصة والتي تتناول كل العلوم الدينية والدنيوية: في الفقه والسيرة والعقيدة واللاهوت وفي اللغة والأدب والفلك والطب والفيزياء والكيمياء وفي الفلسفة والتاريخ.. وفي الروحانيات وغيرها من العلوم.. كل هذا فيه ما يمكن أن يكون فعلا حضاريا ممتدا للمستقبل. وإذا كانت بعض المؤسسات الأكاديمية والبحثية في سلطنة عمان وبعض المؤسسات المعنية بالتاريخ مثل وزارة الثقافة والرياضة والشباب ووزارة التراث والسياحة وهيئة الوثائق والمخطوطات تعمل بشكل جيد في دراسة التاريخ والتراث العماني فإن الأمر مفتوح الآن في المحافظات لتقوم بدور مشابه يغطي ولو جانبا يسيرا مما في هذه البلاد من خزائن ثقافية ومعرفية تستحق أن تدرس ويكشف عنها وتسهم في بناء الهوية الوطنية وتكرس اعتزاز الأجيال القادمة بعُمانيتهم وبتاريخهم وبما أنتجه أجدادهم من إرث خالد في السياسة والاقتصاد والفلك والتاريخ والعلوم الاجتماعية والطب... وكل المعارف دون استثناء.. وكل هذا يحقق حفظ هذا الإرث ويحوله إلى مادة نبني عليها ونمتد منها إلى المستقبل المشرق دائما. |