معركة البريكس
ترجمة: أحمد شافعي -
في أواخر أكتوبر سوف تجتمع مجموعة البلاد المعروفة بـ بريكس في مدينة قازان الروسية لعقد قمتها السنوية. من المقرر أن يكون الاجتماع لحظة انتصار للمستضيف، أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سوف يرأس هذا التجمع للكتلة متزايدة الثقل حتى وهو يواصل حربه في أوكرانيا. يأتي اسم المجموعة مأخوذا من الحروف الأولى للأسماء الإنجليزية للأعضاء الخمسة الأوائل ـ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ـ ولكن المجموعة نفسها نمت فباتت تضم مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات، وتشارك المملكة العربية السعودية في أنشطتها، لكنها لم تنضم رسميا. تمثل هذه الدول العشر مجتمعة 35.6% من إجمال الناتج الوطني في العالم من حيث تعادُل القوة الشرائية (أي أكثر من مجموعة السبعة بـ 30.3%) وتمثل 45% من سكان العالم (تمثل مجموعة السبعة أقل من 10%)، وفي السنوات التالية يحتمل أن يزداد توسع بريكس حيث أعرب أكثر من أربعين بلدا عن الاهتمام بالانضمام، ومنها قوى ناشئة من قبيل الصين.
سوف يتسنى لبوتين الزعم بأنه على الرغم من أكبر الجهود التي بذلها الغرب لعزل روسيا بعد غزوها الكامل لأوكرانيا، فإن بلده ليس بعيدا وحسب عن البلد المنبوذ دوليا، وإنما هو أيضا عضو محوري الآن في مجموعة دينامية سوف تشكل مستقبل النظام الدولي. وليست الرسالة محض استعراض خطابي، ولا هي ببساطة شهادة للكريملين بالبراعة في الدبلوماسية مع البلاد غير الغربية أو البلاد ذات المصلحة الخاصة النفعية مع روسيا.
مع انخفاض قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على صياغة النظام العالمي منفردين، تسعى بلاد كثيرة إلى تعزيز استقلالها الذاتي بالتودد إلى مراكز السلطة البديلة. ففي ظل العجز أو العزوف عن الانضمام إلى الأندية المغلقة الخاصة بالولايات المتحدة وشركائها الصغار من قبيل مجموعة السبعة والكتل العسكرية أمريكية القيادة، وفي ظل تزايد الإحباط من المؤسسات المالية العالمية المدعومة من الولايات المتحدة من قبيل صندوق النقد والبنك الدوليين، تحرص هذه الدول على توسيع خياراتها وإقامة روابطها مع مبادرات ومنظمات غير أمريكية. وتبرز بريكس وسط هذه المبادرات باعتبارها الأهم، والأبرز، والأكثر نفوذا محتملا.
منذ تأسيس المجموعة قبل خمسة عشر عاما، تنبأ محللون غربيون كثيرون بهلاكها. إذ كان أعضاؤها شديدي الاختلاف بعضهم عن بعض، وغالبا ما كانت بينهم مشاحنات في أمور كثيرة، وبدوا مبعثرين في الكوكب، وتلك وصفة لا تكاد تصلح لشراكة ذات شأن. وبقيت بريكس برغم ذلك. وحتى في أعقاب الزلزال الجيوسياسي العالمي الذي تسبب فيه غزو روسيا لأوكرانيا وتعمق التوترات بين الصين والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بالانضمام إلى بريكس، إذ رأت بلاد نامية كثيرة في المجموعة وسيلة نافعة للمناورة خلال السنوات القادمة
لكن على الرغم من جاذبية هذا النادي فإنه لا بد أن يتعامل مع صدع داخلي. فبعض أعضائه، وأهمهم الصين وروسيا، يريدون وضع المجموعة في موقف مناهض للغرب والنظام العالمي الذي صاغته الولايات المتحدة. وإضافة إيران ـ وهي العدو اللدود للولايات المتحدة ـ يعمق فقط الإحساس بأن المجموعة الآن تصطف في جانب معركة جيوسياسة أكبر حجما. وثمة أعضاء آخرون، أبرزهم البرازيل والهند، لا يتبنون هذا الطموح، ويردون بدلا من ذلك استعمال بريكس لنشر الديمقراطية والتشجيع على إصلاح النظام القائم، والمساعدة في هداية العالم من حقبة ما بعد الحرب الباردة أحادية القطبية المتلاشية إلى حقبة أكثر تعددية في الأقطاب تستطيع البلاد في ظلها أن تتحرك بين كتلتين تقود إحداهما الولايات المتحدة وتقود الصين الأخرى. وهذه المعركة بين الدول المناهضة للغرب والدول غير المنحازة هي التي ستصوغ مستقبل بريكس، وستكون لها عواقب مهمة على النظام العالمي نفسه.
فسيفساء الكريملين
تأتي قمة بريكس في قازان عقب سنين من جهود الكريملين الدبلوماسية لصنع منظمة عالمية سباقة من هذا الحساء الألفبائي الذي طبخه للمجموعة محللو جلودمان ساكس. في عام 2006، نظمت روسيا اجتماع بريكس الأول لوزراء الخارجية في نيويورك خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي يونيو 2009، استضاف رئيس الوزراء الروسي ديميتري مدفيديف قادة البرازيل والصين والهند في القمة السنوية في يكاترينبورج. وفي 2010، أضافت المجموعة جنوب أفريقيا فأكملت اسم المجموعة المختصر المعروف اليوم.
قبل خمسة عشر عاما، أزكت الأزمة المالية العالمية التي نشأت في الولايات المتحدة الاهتمام بتجمع بريكس. فقد أدى عجز الهيئات التنظيمية الأميركية عن تفادي الأزمة وفضح عجز مؤسسات بريتن وودز ـ ناهيكم عن نمو الصين المبهر المستدام بينما كانت الاقتصادات الغربية تتعثر ـ إلى إثارة دعوات إعادة توزيع السلطة والمسؤولية الاقتصاديتين بين الغرب والعالم النامي. كانت بريكس هي النادي الأكثر تمثيلا للتعبير عن هذه المشاعر. غير أن موسكو وشركاءها كانوا في ذلك الوقت يعملون إلى حد كبير على تحسين النظام القائم، لا على نسفه. أعلنت بريكس عن بنك التنمية الجديد NDB في 2014 بوصفه مكملا للمؤسسات الدولية القائمة ولوضع شبكة أمان مالية توفر السيولة في حال مواجهة أعضائها لمصاعب قريبة الأجل. كان المقصود منها أن تكمل صندوق النقد والبنك الدوليين، لا أن تنافسهما.
وازدادت قيمة بريكس والغرض منها بالنسبة لروسيا في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، وحرب شرق أوكرانيا، وما أعقب ذلك من عقوبات غربية منسقة لروسيا. صورت روسيا قمة بريكس التي استضافتها في 2015 باعتبارها علامة على عدم انعزالها، وعلى أن المجموعة تصلح بديلا لمجموعة السبعة ـ الثمانية سابقا ـ التي أخرجت منها روسيا للتو. وازداد إحساس الكريملين بأن بريكس يمكن أن تكون ملاذا من هيمنة الولايات المتحدة وضوحا منذ غزو أوكرانيا سنة 2022.
أتاحت علاقات روسيا بالصين والهند، زميلتيها في بريكس، للنظام الحاكم أن يحتمل حملة العقوبات الغربية. ولكن العقوبات الأمريكية على روسيا لا تزال تؤثر على البلاد غير الراغبة في معاقبة الكريملين على حرب أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، أرغم الضغط الأمريكي كثيرا من البنوك الصينية على إنهاء معاملاتها مع نظرائها الروسية في هذا العام، وانقطعت من ثم أنظمة الدفع وتزايدت تكاليف المعاملات على المستوردين الروس. وانزعجت موسكو باكتشافها أن حقيبة عدة واشنطن لا تؤثر فقط على المدفوعات بالدولار الأمريكي بل وعلى المدفوعات باليوان الصيني. فهذه القيود العقابية تنطبق أيضا على بنك التنمية الجديد الذي كانت روسيا ترجو منه أن يكون بمقام مورد للتمويل عندما تغلق العقوبات الغربية المسارات الأخرى، فإذا بالبنك البريكسي يجمد جميع مشاريعه في روسيا.
وبرغم هذه التعقيدات، لا تزال بريكس تلعب دورا أساسيا في تكوين استراتيجية روسيا الكبرى. ففيما قبل فبراير 2022، كانت روسيا ترجو نظاما متعدد الأقطاب تستطيع فيه روسيا أن توازن العلاقات بين أقوى بلدين وهما الصين والولايات المتحدة، وجاءت حرب أوكرانيا فهشمت بقايا البرجماتية في السياسة الخارجية للكريملين، ولما كان بوتين يرى الحرب جزءا من مواجهة أوسع مع الغرب، فإنه يسعى الآن إلى تقويض مواقف الولايات المتحدة أينما استطاع، فمن ذلك تقويض جوانب عديدة من المؤسسات العالمية الحالية بالإسهام في تقوية تحدي الصين لهيمنة الولايات المتحدة. وتمكن رؤية هذا النهج في مجالات كثيرة منها إشراك روسيا للصين وإيران وكوريا الشمالية في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وعملها على تدمير نظام عقوبات الأمم المتحدة المفروض على بيونجيانج، وترويجها الدائم لأنظمة مدفوعات تتجاوز الأدوات الخاضعة للسيطرة الغربية. وقد أوجز بوتين أجندة روسيا في رئاسة بريكس في تصريحات أدلى بها في يوليو بوصفها جزءا من "عملية مؤلمة" للإطاحة بـ"الكولونيالية الكلاسيكية" للنظام أمريكي القيادة، والدعوة إلى إنهاء "احتكار" واشنطن لوضع قواعد الطريق.
وفي هذا الصراع لـ"الاحتكار" الغربي، قال بوتين إن الحملة الأهم هي السعي إلى إضعاف سيطرة الدولار على المعاملات المالية الدولية. ويمثل هذا التركيز نتيجة مباشرة لتجربة روسيا مع العقوبات الغربية. إذ ترجو روسيا أن تستطيع من خلال بريكس إقامة نظام مدفوعات وبنية مالية يكونان محصنين حقا ضد العقوبات ويشملان جميع الدول الأعضاء. وقد يكون بوسع الولايات المتحدة أن تضغط على شركاء روسيا فرادى، ولكن ذلك سيكون أصعب كثيرا أو محالا إذا ما انضمت هذه البلاد في نظام بديل يضم شركاء مهمين للولايات المتحدة من قبيل البرازيل والهند والمملكة العربية السعودية. وقد جاء قرار بنك التنمية الجديد بتعليق مشاريع روسيا تذكرةً قوية بأن على بريكس أن تحقق مزيدا من التطور لتقلل ضعف أعضائها أمام العقوبات الغربية.
الصين في القيادة
قد تكون روسيا هي رأس الحرب الغاضبة الرامية إلى استعمال بريكس في خلق بديل للنظام العالمي ذي القيادة الأمريكية، لكن الصين هي قوة الدفع الحقيقية لتوسع المجموعة. فخلال أزمة 2008-2010 المالية العالمية، أشركت بكين موسكو في رغبتها في زيادة أهمية بريكس. إذ أرادت الصين أن تجعل نفسها جزءا من مجموعة ديناميكية من البلاد النامية تسعى تدريجيا إلى إعادة توازن المؤسسات العالمية بحيث تكون انعكاسا عادلا للتحولات في القوة الاقتصادية والتكنولوجية. غير أن بكين في ظل حكم الرئيس هو جنتاو عزفت عن تولي قيادة التجمع إذ كانت لا تزال تتحرك وفق صيغة دينج شياوبنج وهي الحرص على عدم البروز.
بدأت الأمور تتغير بسرعة في أعقاب تولي شي جينبنج زعامة الصين العليا في 2012. ففي 2013 أعدت بكين مشروعا طموحا أصبح (مبادرة الحزام والطريق)، وهي برنامج استثماري عالمي في البنية الأساسية. وفي الوقت نفسه تقريبا، ساعدت الصين في إطلاق مؤسسات مالية إقليمية لها فيها نفوذ كبير، فكان أولها بنك التنمية الجديد في 2014، ثم بنك الاستثمار في البنية الأساسية الآسيوية الذي تأسس سنة 2016. ودفع بنك الشعب الصيني أيضا تدويل اليوان بتوسيعه استعمال العملة الصينية في التسويات التجارية، والتوسع في مبادلات العملة الوطنية مع بنوك مركزية أخرى لتعزيز سيولة اليوان العالمية، ومارس ضغوطا من أجل إدراج اليوان ضمن سلة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، جاعلا منه العملة الاحتياطية العالمية الوحيدة غير القابلة للتحويل. ومن خلال بنك التنمية الجديد، من خلال مبادرات لاستعمال العملات المحلية في التبادل التجاري الثنائي، ومن خلال جهود لإنشاء مجموعة من العملات الاحتياطية الوطنية، تلعب بريكس دورا مهما في إقامة المؤسسات متعددة الأطراف التي تزيد من نفوذ الصين داخل النظام العالمي الراهن.
مع تدهور العلاقات الأمريكية الصينية في العقد الأخير، ازدادت سياسة الصين الخارجية تطرفا. فالقادة الصينيون على اقتناع بأن الولايات المتحدة لن تسمح طوعا للصين بأن تصبح قوة مسيطرة في آسيا، ناهيكم بإشراكها بكين في القيادة العالمية. وتعتقد الصين أن الولايات المتحدة تستعمل التحالفات والمؤسسات التي يقوم عليها النظام العالمي الراهن لتحجيم صعود الصين. فشرعت الصين، ردا على ذلك، في مشاريع متداخلة من قبيل مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية، التي تتحدى جميعا حق الغرب في الانفراد بتحديد القواعد العالمية والسعي إلى تقويض فكرة القيم العالمية في مجالات من قبيل حقوق الإنسان. وتشير هذه المبادرات إلى رغبة الصين في إقامة نظام مختلف لا في محض إصلاح النظام القائم.
للصين وروسيا الآن طموحات متشابهة فيما يتصل ببريكس، بما يجعل شي وبوتين ثنائيا قويا. فكلاهما يريد أن ينزل الولايات المتحدة عن عرش السيادة العالمية، وتحقيقا لهذه الغاية، تسعى بكين وموسكو إلى صنع منصات تقنية ومالية بديلة تكون محصنة من الضغط الأمريكي. ويبدو أن تعميق التعددية من خلال مجموعة بريكس هو أفضل طريق للمضي قدما. وشأن بوتين، يضع شي هذه الجهود في إطار أخلاقي. فمثلما قال في قمة بريكس سنة 2023: "نحن لا نبدل المبادئ، ولا نخضع لضغط خارجي، ولا نسلك مسلك التابعين. لا بد من كتابة القواعد الدولية والحفاظ عليها من جميع البلاد بناء على أغراض ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، بدلا من إملاءات الأقوى أو الأعلى صوتا".
وبعيدا عن الخطابة، تقود الصين ـ بدعم من روسيا ـ جهود إضافة أعضاء إلى بريكس. فقد ناصرت بكين نهج التعظيم، في محاولة لجذب أكبر عدد ممكن من البلاد. وهي راغبة في أن تكن قائدة لكتلة قوية وكبيرة الحجم. وقد انتهت مفاوضات مطولة أجريت وراء الأبواب المغلقة إلى تضييق قائمة الأعضاء الجدد حتى ستة أعضاء، ثم خمسة بعد تراجع الأرجنتين عن التزامها بالانضمام في أعقاب انتصار الليبرالي خافيير ميلي في الانتخابات الرئاسية في الخريف الماضي.
وسوف تكون قمة قازان أول اجتماع لبريكس الموسعة. لكن دفع بكين العنيف إلى زيادة حجم التجمع وتوسيع دوره في المسرح الدولي له ثمنه. فقد أصبح التجمع أقل تماسكا وأكثر هشاشة، فلا تشترك جميع الدول الأعضاء في أجندة شي وبوتين المناهضة للغرب.
بحثا عن أرض وسطى
يتضح الانقسام بين أعضاء الكتلة المؤسسين. قد تكون الصين وروسيا في خندق واحد، لكن تبقى البرازيل والهند ملتزمتين إلى حد كبير بالسعي إلى إصلاح الحكم العالمي دونما محاولة للعدوان على النظام الدولي بحاله الراهن. ولذلك فإن صناع القرار في برازيليا ونيودلهي حريصون على اتخاذ موقف عدم الانحياز والبحث عن أرض وسطى بين الغرب من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى. ولقد بقيت كل من البرازيل والهند مترددتين إلى حد كبير في ما يتصل بحرب أوكرانيا، عازفتين عن دعم مساعي الغرب لعزل روسيا وعازفتين بالقدر نفسه عن الوقوف الصريح في جانب موسكو، مدركتين أن الغزو يرقى إلى الانتهاك الصريح للقانون الدولي. واستفادت كلتا الدولتين اقتصاديا من التحول التجاري الناجم عن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. فالبرازيل تشتري الأسمدة الروسية المخفضة وكانت في العام الماضي من أكبر مشتري الديزل الروسي. والهند أيضا تشتري سلع الطاقة الروسية المخفضة. لكن لا ترغب أي من الدولتين في قطع الروابط مع الغرب أو قصر نفسها على كتلة معادية للغرب.
ولذلك فإن البرازيل والهند حذرتان من توجه مجموعة بريكس المتشدد. وعارضت كلتاهما في أول الأمر دفع الصين إلى توسيع المجموعة الذي اقترحته بكين للمرة الأولى في عام 2017 باسم "بريكس بلس". إذ كانت البرازيل والهند حريصتين على الحفاظ على خصوصية النادي خشية أن تؤدي إضافة أعضاء جدد في الكتلة إلى إضعاف نفوذهما فيها. وفي عام 2023، كثفت الصين حملتها الدبلوماسية وضغطت على البرازيل والهند لدعم التوسع، وذلك في الغالب من خلال تصوير مقاومتهما باعتبار أنها تعادل منع البلاد النامية الأخرى من النهوض. وحرصا منها على حفظ موقفها في الجنوب العالمي، تخلت الهند عن معارضتها، فلم تترك للبرازيل من خيار إلا مجاراة التوسع. وضغطت البرازيل من أجل منع إضافة أي بلاد سافرة العداء للغرب، في محاولة فشلت فشلا واضحا عند الإعلان عن إيران ضمن الأعضاء الجدد في ذلك العام.
أدهشت الصين الدبلوماسيين البرازيليين بالطريقة التي فرضت بها ما تفضله خلال قمة عام 2023، وأكدت المخاوف من أن دور بلدهم قد يتضاءل في مجموعة موسعة تقودها الصين الأكثر حزما. أثارت هذه التطورات مخاوف البرازيل من أن الانتماء إلى بريكس قد يعقد استراتيجيها في عدم الانحياز. وفي الوقت الراهن، لا يزال هناك إجماع واسع النطاق على أن للعضوية فوائد كبيرة. والبرازيل تقدر فرصة تعميق روابطها بالدول الأخرى من أعضاء بريكس والقوة الإضافية الناجمة عنها في التفاوض مع واشنطن وبروكسل. كما ساعدت عضوية بريكس بلادا من قبيل البرازيل وجنوب أفريقيا ـ التي لم تكن لبيروقراطيتها معرفة كبيرة بالعالم غير الغربي ـ في التكيف مع النظام متعدد الأقطاب. يضاف إلى هذا توفير وقت مباشر مع شي وغيره من صناع القرار الصينيين وهي ميزة بعيدة كل البعد عن التفاهة في ضوء ما اكتسبه الاستثمار والتجارة الصينيان من أهمية بالنسبة للدول في شتى أرجاء جنوب العالم.
برغم التباعد المتنامي بين المعسكر واضح المعاداة للغرب في بريكس ومعسكر عدم الانحياز، لا يزال جميع الأعضاء متفقين على عدد من القضايا الأساسية بما يفسر سبب أهمية التجمع لأعضائه. في نظر أغلب بلاد التجمع، ينتقل العالم من أحادية القطب أمريكية القيادة إلى التعددية القطبية، حيث تتحدد الأوضاع الجيوسياسية من خلال المنافسة بين مراكز عديدة للقوة. ويبقى تجمع بريكس ـ برغم توتراته الداخلية ـ منصة أساسية للصوغ الفعال لهذه العملية. والواقع أن التعددية القطبية ـ عند رؤيتها من زاوية نظر عواصم الجنوب العالمي ـ هي السبيل الأكثر أمنا لتقييد القوة المهيمنة التي تمثل في حال عدم تقييدها تهديدا للقواعد والأعراف الدولية وللاستقرار العالمي. وغالبا ما يغفل صناع السياسة الغربيون هذا الاتفاق الأساسي بين بلاد بريكس والدور الذي لعبه في الحفاظ على التزام جميع الأعضاء في التجمع منذ إنشائه.
يفسر هذا المنظور المشترك أيضا السبب في أن أغلب العالم النامي يتطلع إلى مزيد من التعددية القطبية في النظام العالمي، ولا يبتهج بسيطرة واشنطن أو الغرب المطلقة. ويمثل الانضمام إلى بريكس لبلاد كثيرة طرحا شديد الجاذبية، وترحب الصين وروسيا ـ من جانبهما ـ بضخامة عدد البلاد التي أعربت عن اهتمامها بالانضمام، ومنها الجزائر وكولمبيا وماليزيا.
غير أن أي بلد ينضم إلى بريكس سيكون عليه أن يكافح لإجابة سؤال أساسي: في أي جانب يكون هذا البلد؟ هل ينضم إلى فريق البرازيل والهند وغيرهما من غير المنحازين، أم إلى فصيل مناهضة الغرب بقيادة الصين وروسيا؟ إيران، وهي نفسها بلد منبوذ على المسرح الدولي، سوف تقوي معسكر مناهضة الغرب. لكن أغلب البلاد الأخرى يرجح أن ترى الانضمام إلى بريكس باعتباره سبيلا إلى تقوية روابطها بالصين وبلاد أخرى في الجنوب العالمي دونما تقليل من روابطها مع الغرب.
والمملكة العربية السعودية مثال أساسي. ففي حين تبقى الرياض حليفا أساسيا لواشنطن، فإنها سعت إلى تعميق روابطها بالصين، وشرعت في سعي دبلوماسي غير مسبوق في مناطق لم تلعب السعودية فيها تقليديا أي دور، من قبيل أمريكا اللاتينية والكاريبي، بجانب استثمارات في بلاد من قبيل تشيلي وجوايانا. وتتبنى حكومات أمريكا اللاتينية هذه المبادرات بالمنطق نفسه: في عالم متزايد الاضطراب ماض في طريقه متقطعا إلى التعددية القطبية، يحسن بها أن تنوع استراتيجياتها الاقتصادية والدبلوماسية.
صدوع في الجدار
في الغرب يرفض بعض المنتقدين مجموعة بريكس باعتبارها مجموعة متنافرة لا تستحق اهتماما كبيرا. ويعتقد آخرون أنها تهديد مباشر للنظام العالمي. وكلا الفريقين يفتقر إلى الدقة: فظهور بريكس بوصفها تجمعا سياسيا يعكس مظالم انعدام المساواة في النظام ذي القيادة الأمريكية لا يمكن الاكتفاء بالإعراض عنها. لكن بفضل تغيرات في الاستراتيجية الصينية والروسية الكبيرة، تزداد الاختلافات داخل المجموعة هي الأخرى، ومن المرجح أن يضغف التوسع الأخير من تماسكها.
في الوقت الراهن، للصين وروسيا اليد العليا في النقاش الداخلي الجاري حول صياغة مستقبل بريكس. لكن قد لا يكون هذا هو الحال دائما. صحيح أن قوة النادي غير موزعة بالتساوي، إذ أن الاقتصاد الصيني أكبر من اقتصاديات الدول الأعضاء المؤسسة مجتمعة، لكن ذلك لا يعني أن الأعضاء الآخرين لا يستطيعون مقاومة تحول التجمع إلى كتلة ذات قيادة من بكين ومشاركة من موسكو. فالبرازيل والهند تعملان منذ سنين من وراء الستار لتخفيف نبرة لغة روسيا الأشد عدوانية في إعلانات القمم، وكذلك الصين ستجد أنها لا تستطيع تجاهل نفوذهما المعتدل. فعلى سبيل المثال، يرفض رئيس البرازيل صراحة تأطير بريكس بوصفها ثقلا موازنا لمجموعة السبعة وكثيرا ما يقول إن المجموعة "ليست ضد أحد". وفي الآونة الأخيرة دعا آرفيند سورامنيان كبير المستشارين الاقتصاديين السابق لحكومة الهند بلده إلى الخروج من المجموعة لأن توسعها يساوي في نظره استيلاء بكين وأجندتها عليها. لكن البرازيل أو الهند لا تزالان تريان أن لهما قوة داخل بريكس، وأن رحيلهما يضعف كثيرا المجموعة كلها على نحو لا يصب في مصلحة الصين أو روسيا.
سيكون لزاما على التجمع أن يدير هذه التوترات والتناقضات في السنوات المقبلة. ومن المرجح أن تزداد الصدوع القائمة في بريكس ولكن ليس من المرجح أن تتسع إلى أن تفضي إلى تفكيكها. ومن المؤكد أن المجموعة قادرة على مواجهة ضغوط كبيرة. فقد يفضي التنافس التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة إلى إقامة سور حديدي رقمي ونشوء مجالين تكنولوجيين منفصلين وغير متناغمين، بما يجعل التردد بين المعسكرين أشد صعوبة. وسوف تزداد أيضا صعوبة العثور على قاسم مشترك في التجمع، وبخاصة في القضايا الجيوسياسية الحساسة من قبيل الحرب في أوكرانيا. وقد تجعل هذه الاختلافات المجموعة أقل تأثيرا على المسرح الدولي، حتى وهي تكتسب قوة في ما يتعلق بجهودها نحو طرح عملات بديلة للدولار الأمريكي.
بالنسبة للولايات المتحدة وقوى غربية أخرى، تبرز الديناميات الفاعلة داخل بريكس ضرورة التعامل الجاد مع التجمع ـ والسخط من النظام القائم. وإنه لأمر منطقي تماما من قوى صاعدة من قبيل البرازيل أن تبحث عن خيارات تحوط وأن تشعر بالسخط من كيفية توجيه الولايات المتحدة للنظام القائم. يجب أن تركز القوى الغربية على عدم مفاقمة الأوضاع من خلال محاولتها مثلا تخويف القوى المتوسطة من الانضمام إلى بريكس، بما ينم عن أبوية وتدخل شبه كولونيالي. فقد ثبت بالمثل عدم فعالية المساعي الغربية إلى تحذير القوى المتوسطة في الجنوب العالمي من الإفراط في الاعتماد على الصين.
بوسع القوى الغربية أن تفعل المزيد لكي لا تنفر هذه القوى المتوسطة الساعية إلى مساحة أكبر للمناورة وإلى ضمان ألا تصبح بريكس كتلة مناهضة للغرب. يجب عليها أن توضح بمزيد من الصراحة كيف ترتبط العقوبات المعينة بانتهاكات القانون الدولي، وتحاول أن تتسق في تطبيق هذه العقوبات على جميع المنتهكين، وليس فقط على الخصوم الجيوسياسيين. إن بلاد الجنوب العالمي تريد مهربا من هيمنة الدولار حينما ترى البلاد الغربية تجمد على سبيل المثال احتياطيات البنك المركزي الروسي في 2022 ردا على غزو أوكرانيا ثم لا تكون هناك عقوبات لاعتداءات عسكرية غير قانونية مماثلة في الشرق الأوسط وأفريقيا. بوسع البلاد الثرية أيضا أن تكون أفضل في حل مشكلات البلاد الفقيرة، بإشراكها في التكنولوجيا ومساعدتها على التحول الأخضر. ويجب على الغرب أن يبذل مزيدا من الجهود الحقيقية لدمقرطة النظام العالمي، فيتخلص من تقليد عتيق يفرد للأوروبيين فقط رئاسة صندوق النقد الدولي وللأمريكيين دون غيرهم رئاسة البنك الدولي.
من شأن هذه الأعمال أن تقيم الثقة وتقوض المساعي الصينية والروسية لإدراج الجنوب العالمي في كتلة مناهضة للغرب. وبدلا من التباكي على نشوء مجموعة بريكس، يجب أن يتودد الغرب إلى الدول الأعضاء ذات المصلحة في ضمان ألا يتحول التجمع إلى كيان صريح المعاداة للغرب يسعى إلى تقويض النظام العالمي.
• ألكسندر جابويف مدير مركز كارنيدي لروسيا ووسط آسيا في برلين
• أوليفر ستوينكل أستاذ مشارك في كلية العلاقات الدولية في مؤسسة جيتوليو فارجاس في ساو باولو وباحث زائر في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي.
** خدمة فورين أفيرز