الحرب عبء جديد يثقل كاهل اللبنانيين
بيروت (لبنان) «أ.ف.ب»: بعدما أنهكتهم أزمات متلاحقة على مدى سنوات، يجد اللبنانيون أنفسهم راهنا تحت رحمة حرب تلقي بظلالها على صحتهم النفسية، إلى درجة بات كثر منهم «غير قادرين على التحمل»، وفق ما يحذّر مختصون.
فـي رسم كاريكاتوري بعنوان «حلوى لبنانية»، يصوّر اللبناني برنار حاج تراكمات اختبرها اللبنانيون فـي السنوات الأخيرة على أنها قالب حلوى من طبقات عدة، تمثل كل واحدة منها محنة: الانهيار الاقتصادي، وباء كوفـيد، انفجار مرفأ بيروت، الأزمة السياسية، اكتئاب جماعي. وتأتي الحرب لتشكل حبة الكرز التي تزين أعلى قالب الحلوى.
ويلخّص الرسم أزمات يعيشها اللبنانيون منذ الأزمة الاقتصادية التي بدأت فـي خريف 2019، مرورًا بوباء كوفـيد وانفجار مدمر فـي مرفأ بيروت فـي صيف 2020. وتصف المعالجة النفسية كارين نخلة تلك التراكمات بأنها «صدمات جماعية متلاحقة لم تتوقف أبدا».
ونخلة مسؤولة فـي منظّمة «إمبرايس»، التي تعنى بالصحة النفسية وأنشئت عام 2017 للحدّ من الانتحار. ويتلقّى العاملون فـي المنظمة «المدربون والمؤهلون بشكل كبير» اتصالات على مدى 24 ساعة فـي اليوم وسبعة أيام فـي الأسبوع.
ومنذ 23 سبتمبر، تاريخ تحوّل التصعيد بين حزب الله وإسرائيل إلى حرب، ازدادت الاتصالات الواردة إلى مركز المنظمة.
وتقول نخلة إنهم يتلقون حوالي خمسين اتصالًا يوميًا من «أشخاص تحت الصدمة، يعانون من الهلع، كثر منهم يتصلون من مناطق تتعرض للقصف، يتساءلون فقط ما الذي ينبغي عليهم فعله». وأدّى القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان وشرقه وعلى ضاحية بيروت الجنوبية، معاقل حزب الله، إلى مقتل أكثر من 1100 شخص خلال 15 يومًا، ونزوح أكثر من مليون شخص فـي أنحاء مختلفة فـي لبنان، وفق السلطات اللبنانية.
فـي بيروت التي تستقبل عشرات الآلاف من العائلات النازحة، تبدّل المشهد سريعًا فـي غضون أيام، فأصبحت ملجأ لعائلات توجّهت إلى مراكز إيواء موقتة أو لدى أقارب أو شقق مستأجرة، إضافة إلى زحمة سير خانقة كبّلت شوارعها.
وخلال ساعات الليل، تجبر سلسلة من الغارات التي تستهدف ضاحية بيروت الجنوبية عائلات على الفرار، على وقع دوي انفجارات ضخمة، تهتزّ بسببها النوافذ، وتندلع منها روائح البلاستيك ومواد محترقة.
توقظ هذه التجربة مجددًا فـي نفوس اللبنانيين صدمات قديمة وجديدة، بينها انفجار المرفأ وحرب يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل، والحرب الأهلية اللبنانية الدامية (1975-1990).
ويتخطّى القلق المناطق التي تحوّلت إلى ساحة حرب، ليدفع الثمن مدنيون خائفون بعيدًا عن خطوط النار.
تقطن ريتا باروتا (45 عامًا) قرب مدينة جونيه «الهادئة» ذات الغالبية المسيحية شمال بيروت. هناك، لا تسمع أصوات الغارات. لكنها رغم ذلك تقول إنها «لا تجد كلمات لوصف ما يجري الآن».
وتضيف باروتا، وهي أستاذة جامعية «لا أعرف الشخص الذي كنته قبل 15 يومًا، الأكل والنوم والاعتناء بنباتاتي، كلّ ذلك لم يعد موجودا».
وتكمل «لقد أصبحت شخصًا آخر، كلّ ما يهمني الآن هو كيف يمكنني أن أقدّم يد العون».
عبر هاتفها، تنهمك باروتا ليلًا نهارًا فـي البحث عن مأوى لأشخاص باتوا على الطرقات، ولترشدهم نحو مراكز إيواء يحتمون فـيها، أو لتوفـير أدوية تنقصهم.
وتروي «حين أتوقّف عن العمل لخمس دقائق، يراودني شعور بالفراغ التام»، معتبرة أن مساعدة الآخرين هو السبيل الوحيد لتجنّب الشعور بأنها «منهكة ومذعورة».
وترى باروتا التي كادت تفقد والدتها فـي انفجار المرفأ وتحتفظ بذكريات حية عن حرب 2006، أنّ «ما يحدث اليوم ليس مجرد إيقاظ لصدمة قديمة، بل شعور هائل بالظلم». وتسأل «لماذا نعيش هذا كله؟ لا أعرف ما إن كان ذلك الضربة القاضية».
و تفـيد دراسة أعدّتها منظمة «إدراك» غير الحكومية عام 2022، ونشرتها فـي سبتمبر، أن ثلثي اللبنانيين على الأقلّ يعانون من اضطراب نفسي.
ويوصف رئيس قسم الطبّ النفسي فـي مستشفى أوتيل ديو فـي بيروت رامي بو خليل الوضع الحالي بالقول «لسنا بخير جميعا، بشكل أو بآخر»، من اكتئاب وقلق واضطراب ما بعد الصدمة.
ويقول بو خليل «لدى اللبنانيين قدرة خارقة على الصمود»، لافتًا خصوصًا إلى الدور الذي يلعبه الدعم العائلي والمجتمعي والديني.
ويشرح «لكننا نتعامل مع ظاهرة تراكم التوتر، الذي يجعل الكأس يفـيض» مضيفًا: «لسنوات ونحن نحشد مواردنا الجسدية والنفسية والمالية. الآن، لم يعد الناس قادرين على التحمل».
ويعرب بو خليل عن قلقه لرؤية مرضى «يتطلّب وضعهم الدخول إلى المستشفى» لكنهم عاجزون عن ذلك لأسباب مادية، وآخرين يتدهور وضعهم لأنهم «غير قادرين على تحمّل مزيد من الصدمات».
يلحظ الطبيب أيضا زيادة فـي تناول الحبوب المنومة. ويقول «يريد الناس أن يناموا»، ومن الأسهل تناول الأدوية عندما لا يتوفر لديهم المال أو الوقت لاستشارة الطبيب.
وتشير كارين نخلة أيضًا إلى أن «كثرًا لا يستطيعون الوصول إلى خدمات الصحة النفسية»، مع وصول كلفة الاستشارات النفسية الخاصة إلى قرابة مائة دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى شريحة واسعة من اللبنانيين. وتراوح فترة الانتظار للحصول على استشارة مجانية فـي جمعية «إمبرايس» بين أربعة إلى خمسة أشهر. وتقول نخلة «الحاجة الآن» للخدمات النفسية «هي أكبر من أي وقت مضى».