في ذكراه الأولى.. طوفان الأقصى وتداعي النظام العالمي
تحل بعد غدِ الذكرى الأولى لطوفان الأقصى الذي أحدث زلزالا كبيرا فـي المنطقة وغير الكثير من قواعد الاشتباك بين قوى المقاومة وإسرائيل، وأسقط السرديات التي كانت سائدة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبنى سرديات جديدة.
وتصاعدت الأزمة الإنسانية المصاحبة للرد الإسرائيلي على طوفان الأقصى التي تسببت حتى الآن فـي تدمير كامل للبنية الأساسية والعمرانية فـي قطاع غزة، وفـي استشهاد ما يزيد على 45 ألف فلسطيني، أكثر من 70% منهم نساء وأطفال. ونقل جيش الاحتلال الإسرائيلي معركته فـي الشهر الثاني عشر من الحرب إلى لبنان وما زال يدمر كل البنية الأساسية فـي جنوب لبنان كما تسبب فـي نزوح أكثر من مليون لبناني من الجنوب إلى بيروت ومناطق الشمال إضافة إلى مئات الشهداء الذين يسقطون كل يوم.
لكن الأمر لم يقتصر على الآثار الإنسانية الكبيرة والمؤلمة التي أوجدتها الحرب، فالعالم نفسه، الداعم أو المتفرج، أصبح على شفا تحول جذري فـي نظام العلاقات الدولية.. ويوما بعد يوم يتدهور النظام الليبرالي الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لقد خلفت تصرفات جيش الاحتلال الإسرائيلي الهمجية وتوجهات نتنياهو، المدعوم من أمريكا، كسرا عميقا فـي مفهوم المساءلة الدولية عن جرائم الحرب وعن الإبادة الجماعية وموقف المجتمع الدولي منها. ورغم الغضب الشعبي العالمي الذي ما زال يتصاعد ما زالت المساءلة القانونية الدولية غائبة حتى الآن، ولا يُرى أي عمل حقيقي لوقف الجرائم التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ناهيك عن المحاسبة عليها.
لقد أبرزت هذه الحرب حجم التفاوت فـي تطبيق القانون الدولي؛ حيث يُنظر إلى حياة العرب وغير الغربيين بقيمة أقل فـي عيون من أرسى النظام الدولي الليبرالي؛ لذلك لا يعني عدد «القتلى» الضخم أي شيء للقوى الغربية وللكثير من مؤسسات المجتمع الدولي!
يحاول نتنياهو جاهدا توسيع نطاق حربه من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وأيضا فـي إيران فـي محاولة مجنونة لإشعال المنطقة بأكملها تعزيزا لموقفه الداخلي وصناعة شرعية داخلية ودولية لحربه.. ومن غير الواضح ما إذا كان نتنياهو يعي جيدا أن هذا الأمر فـي مجمله يعقد خياراته الشخصية بنفس القدر الذي يعقد خيارات إسرائيل ويؤزمها.
يحاول نتنياهو تقويض قدرات حزب الله، ووصل إلى مرحلة اعتقد أنه نجح فـي ذلك بشكل كامل، قبل أن يكتشف أن الأمر أكثر صعوبة مما كان يعتقد هو وجيشه. الخسائر البشرية كبيرة فـي الجانب اللبناني ولكنها كذلك أيضا فـي الجانب الإسرائيلي. وبات واضحا الآن أن حرب لبنان ما هي إلى هروب نحو الأمام من تحقيق الأهداف التي سعى إليها نتنياهو فـي غزة المتمثلة فـي تحرير الرهائن وإنهاء حماس.
فـي الداخل الإسرائيلي تكشف الأزمة الإسرائيلية عن تآكل الديمقراطية التي كانت تفخر بها إسرائيل ويفخر بها الغرب فـي سياق مقارنتها مع «ديمقراطية» العالم العربي المتداعية. على أن سردية الديمقراطية الإسرائيلية كشفت عن حقيقتها أمام العالم أجمع وارتبطت فـي الذهنية العالمية بقتل الأطفال وتجويعهم، وهدم كل ما يمكن أن يمت للحضارة والإنسانية فـي قطاع غزة. وفـي الداخل، أيضا، تنحدر إسرائيل أكثر من أي وقت مضى نحو القومية المتطرفة فـي ظل تراجع الحقوق المدنية وتزايد التفرقة والتمييز بين مكونات «المجتمع» الإسرائيلي على أساس القوميات ما يخلق حالة من الانقسام العميق داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته. هذا التراجع يعكس تحولا نحو مجتمع أكثر عنفا وأقل استعدادا للحوار والتعايش السلمي.
رغم كل هذا المشهد ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الغربية متمسكة بدعم إسرائيل بالأسلحة الفتاكة، وتراخٍ عجيب عن الضغط عليها لوقف الحرب الأمر الذي معه تنامى الاستياء العالمي خاصة وسط ما يعرف بدول «الجنوب العالمي» ما يعزز نفوذ قوى مثل الصين وروسيا التي تسعى لتحدي النظام الدولي القائم وتفكيك «النظام الليبرالي» والعمل على بناء نظام عالمي جديد أكثر تعددية وتنافسية.
وأمام كل هذه التحولات والتغيرات التي حدثت بسبب أو خلال حرب طوفان الأقصى تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة النظر فـي السياسات الدولية والتزام الدول الكبرى بالمبادئ الإنسانية والقانون الدولي. والواضح أنه إذا لم يتم إحداث تغيير جذري فـي هذه الحرب فإننا قد نشهد تقريبا حربا شاملة فـي منطقة الشرق الأوسط تنتهي بتقويض النظام الدولي الذي فشل حتى الآن فـي إرساء السلام والقيم والمبادئ العادلة.. وكل المتغيرات التي تحدث فـي العالم بموازاة ما يحدث فـي الشرق الأوسط تدفع نحو هذا التغيير وتقود إليه بشكل مباشر.
لقد فشل المجتمع الدولي بعد عامل كامل أمام اختبار الحفاظ على نظام عادل ومتوازن يحمي حقوق الإنسان ويضمن السلام العالمي.. وتركنا أمام سؤال كبير ومهم: هل سنشهد نهاية النظام القائم وبزوغ فجر جديد للعلاقات الدولية أو سنغرق أكثر فـي فوضى وصراعات لا تنتهي؟