لن تجد إسرائيل النصر في لبنان
ترجمة أحمد شافعي -
كان مقتل زعيم حزب الله حسن نصر الله استعراضا مخيفا للمخابرات الإسرائيلية وللكفاءة العسكرية، فضلا عن غفلة حزب الله. لكن فيما تحتشد الدبابات على الحدود اللبنانية وتسقط القنابل فيما يعتقد مسؤولون أمريكيون أنه سيكون غزوا محدودا، فإن إسرائيل لا تتقدم صوب نصر حاسم، وإنما صوب مزيد من التورط. والحادث يجسد عجز إسرائيل الدائم في هذا الصراع. ففي العام المنصرم منذ السابع من أكتوبر، أظهر الجيش الإسرائيلي قدرات هائلة في التدمير الصناعي والاغتيال التقني. لكنه عجز في الوقت نفسه عن تحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية، مع سوقه المنطقة التي يعدها وطنه برمتها إلى حافة الحرب.
ويبدو أن نصر الله ـ الموجود على قائمة الأهداف الإسرائيلية منذ سنين إذ حاولت قصفه ثلاث مرات في عام 2006 وحده ـ قد قدَّر أن حزب الله قادر على مواصلة الضغط على إسرائيل لإنهاء حرب غزة بقصف الصواريخ على المنطقة الشمالية دونما كابح. وبرغم أن ضربات إسرائيل الانتقامية للبنان فاقت كثيرا ضربات حزب الله عددا وتأثيرا، فلعل نصر الله قد رأى أن ذلك الثمن جدير بالدفع. وكما في غزة، توقع أن موت ونزوح المدنيين اللبنانيين سوف يثير إدانة عالمية ويرغم إسرائيل في النهاية على إنهاء الحرب على حماس، وقد يكون ذلك بضغط من إدارة بايدن المتخوفة من اتساع الحرب في الشرق الأوسط.
أخطأ حزب الله الحسابات، ودفع نصر الله الثمن من حياته. فإسرائيل، أولا، أعرضت عن اقتراح بايدن بوقف لإطلاق النار لمدة 21 يوما. ثم شرعت في تعقب وقتل كبار عناصر حزب الله، مستغلة شبكة مخابراتها بتأثير عديم الرحمة. فقد عمل جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) عملا جادا طوال عقد من الزمن لاكتساب القدرة على تعقب حركات كبار قادة حزب الله ومقاتليه بالتجسس على هواتفهم المحمولة وأجهزة أخرى منها ما يستعمله أقارب لهم. وكان من المفترض أن يكون حجم الخداع الإسرائيلي واضحا لحزب الله بعد ضربة أجهزة البيجر واللاسلكي في 18 و19 سبتمبر.
ومع ذلك، حتى بعد هذه الخسائر، وقع حزب الله الذي يستعمل عادة إجراءات أمنية مشددة لحماية نصر الله، وكان وقوعه غريبا لا يمكن تفسيره. فمع علمه بأن إسرائيل تمتلك قنابل خارقة للتحصينات (سواء الخاصة بها أو التي توفرها لها الولايات المتحدة)، سمح لنصر الله بمقابلة كبار قادة حزب الله تحت المقر المركزي في جنوب بيروت. وكان ينبغي للعناصر المتولية أمر نصر الله أن تدرك المخاطر، ففي الثلاثين من يوليو أدت غارة جوية على بيروت إلى مقتل فؤاد شكر القائد العسكري الكبير في حزب الله، ثم قتلت إسرائيل في اليوم التالي زعيم حماس السياسي إسماعيل هنية في طهران.
يمثل مقتل نصر الله ومعه ما لا يقل عن 20 من كبار قادة حزب الله تتويجا لمنجز إسرائيل فيما يبدو بالفعل أنه حملة شرسة. فالجراح التي مني بها حزب الله تتجاوز كثيرا قطع الرأس. فالحزب الآن مستدرج إلى مواجهة مسلحة مع أحد أقوى جيوش العالم، في وقت لم يعد فيه حتى نظام الاتصال لدى الحزب آمنا. ولا يستطيع كبار زعمائه وقادته أن يخاطروا بالخروج إلى الهواء النقي خشية الاغتيال. ولزيادة الطين بلة، تردد أن قوات إسرائيلية خاصة ربما عبرت الحدود لتمهيد الأرض لغزو كامل.
يزعم نعيم قاسم الذي حل محل نصر الله ـ ولو بصفة مؤقتة ـ أن مقاتليه "مستعدون" لأي هجمة. وهذا التفاخر متوقع من أي شخص في مكانه، لكن حزب الله حتى في سقوطه أبعد ما يكون عن الخروج من اللعبة. فهو ميلشيا، وحركة شعبية، وحزب سياسي، وليس جماعة صغيرة يعتمد بقاؤها على شخصية واحدة ذات كاريزما في القمة. وعملية اختيار زعيم دائم جديد له جارية بالفعل، ويبدو أن المرشح الأوفر حظا هو هاشم صفي الدين، ابن عم حسن نصر الله، وعضو مجلس الشورى في الحزب. وهو شأن نصر الله عالم درس في قم بإيران، أي مركز العلم الشيعي، وهو سيد أسود العمامة، يزعم أنه من آل بيت النبي محمد. ومع أن حسن نصر الله ظل يقود الحزب منذ عام 1992 فهو ليس بالشخص الذي لا بديل له.
برغم توتر القيادة، يبقى حزب الله جماعة عميقة الجذور في المجتمع اللبناني. وبرغم أنه لا يحظى بمحبة مطلقة في لبنان (إذ يميل المسيحيون والمسلمون السنة بصفة خاصة إلى النظر إليه بازدراء)، فإن لحزب الله تأييدا شعبيا كبيرا. وفي حين أن لبنانيين كثرا يلومونه على تعريضهم لدمار هجمة إسرائيلية، ذلك أن مليونا منهم، أي قرابة خمس الشعب اللبناني، قد نزحوا بالفعل فضلا عن مصرع العشرات، لكن آخرين سوف يوجهون غضبهم على إسرائيل. فضلا عن ذلك، لحزب الله عشرات آلاف الجنود، بما في ذلك جنود الاحتياط، وكثير منهم متمرسون بالمعارك. ولذلك فسوف يبقى الحزب متحصنا في الجنوب اللبناني، وحتى لو اضطر إلى الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني، فقد يتبين أنه انسحاب مؤقت.
بعد مقتل نصر الله، أطلق حزب الله صواريخ على صفد بشمال إسرائيل ـ حيث دوت صافرات الإنذار محذرة أيضا من اختراق مجموعة مسيرات ـ بل وعلى القدس. وقد تتقلص حدة هذه الهجمات، لكن من غير المرجح أن تخمد تماما، وما لم يحدث ذلك، لن يتسنى لنتنياهو أن يؤمّن الشمال بالقدر الذي يسمح للإسرائيليين النازحين بالعودة في ثقة. والسبيل الوحيد الذي تستطيع به إسرائيل إنهاء خطر حزب الله هو أن تجمع إلى القوة الجوية المدمرة حملة برية كبيرة. لكن إرسال الجيش الإسرائيلي إلى جنوب لبنان في وقت لا تزال فيه المعركة دائرة مع حماس في غزة أمر يرقي إلى المقامرة.
واضح أن إسرائيل تفهم فهما كبيرا هياكل حزب الله وتحركاته واتصالاته لدرجة القدرة على الاستماع إلى عناصر حزب الله من خلال ميكروفونات مدسوسة فيما لديهم من أجهزة التحكم عن بعد في التليفزيونات حسبما يقال. لكن حرب الغزو أو الاحتلال شأن آخر. ولو أن لنا دليلا في نتاجي حرب 1982-2000 و2006، فإن أي محاولة سوف تكون باهظة التكلفة ودموية، وقد تمنى بالفشل. وفي حال انزلاق إسرائيل إلى مستنقع عسكري آخر، سيكون نصر الله قد حقق النصر من قبره: بإلهاء يقلص قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب في غزة.
بالنسبة لإيران، وهي نصيرة حزب الله وراعيته، يمثل قتل إسرائيل لنصر الله وآخرين من كبار عناصر الجماعة حرجا كبيرا وانتكاسة استراتيجية في الآن نفسه. ومن ثم فإن تكهنات كثيرة تتناول الرد المحتمل من قادة إيران، وبخاصة في ضوء أن الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت نصر الله قد قتلت أيضا العميد عباس نيلفوروشان، نائب قائد العمليات في الحرس الثوري الإيراني الذي قام فيلق القدس التابع له بتوفير العتاد والتدريب لحزب الله منذ أمد بعيد. يأتي مقتل نيلفوروشان بعد شهرين فقط من اغتيال إسرائيل لهنية في أثناء حضوره تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، ويبدو أن الجيش الإسرائيلي عاقد العزم على توجيه ضربة أقوى لحليف إيراني آخر، أي الحوثيين في اليمن، الذين يطلقون الصواريخ على إسرائيل، ويستهدفونها بالمسيرات، ويقطعون خطوط التجارة في البحر الأحمر للضغط عليها اقتصاديا.
ومع تعرض حلفائها، وبالتالي نفوذها الإقليمي، لضربات متزامنة، تتعرض إيران لضغط هائل. لكن لديها أسبابا قوية لاجتناب تصعيد قد يتحول إلى حرب مع إسرائيل. لطالما تخوفت طهران من أن نتنياهو والقطاعات الصقورية في الجيش الأمريكي يعتقدون أن مستقبل إسرائيل بعيد المدى لا يستقيم ومستقبل إيران بعيد المدى وأن يوم الحساب الأخير فقط هو القادر على حل هذه المشكلة، خاصة وهم يعتقدون أن إيران لا تزال عازمة على صنع أسلحة نووية.
علاوة على ذلك، ليس من الواضح ما الذي يمكن أن تفعله إيران من بعيد غير إطلاق صواريخ لدى إسرائيل القدرة على اعتراضها خاصة في حال مساعدة الولايات المتحدة لها مثلما ساعدتها في ابريل حينما استهدفت إيران وجماعات تابعة لها إسرائيل بـ140 صاروخا بالستيا و150 مسيرة مسلحة. من المؤكد أن إيران سوف تدين إسرائيل، وتنظم مظاهرات حاشدة، وربما تلجأ إلى استعراض محدود للقوة حفظا لماء الوجه. ولكن في حين أنه من السابق لأوانه التنبؤ بما سوف تفعله إيران، فيجدر بنا أن نتذكر أنها أحجمت عن الانتقام بعد مقتل هنية وبعد هجمة المسيرة الأمريكية التي قتلت الجنرال قاسم سليماني في يناير 2020.
بوسع نتنياهو أن يهلل بالنصر بسبب الخسائر التي ألحقها بحزب الله. ولكن وابل صواريخ حزب الله برغم إزعاجها لم تمثل لإسرائيل تحديا كبيرا بالمقارنة مع استمرار الحرب في الجنوب. وبرغم الضرب المستمر من الجيش الإسرائيلي، لا تزال حماس ترفض قبول وقف إطلاق النار بشروط إسرائيل. ومع اقتراب حرب غزة من العام منذ بدايتها، فإنها لا تبدي علامات دمار حماس، وذلك هو الهدف الذي يتشبث به نتنياهو برغم أن كبار المسؤولين في المخابرات الإسرائيلية والمؤسسات العسكرية، سواء السابقين أم الحاليين، قد اعترفوا منذ شهور بأنه غير قابل للتحقق.
لن يجعل مقتل نصر الله تحقيق هدف نتنياهو في غزة أسهل بأي حال من الأحوال، لأن قدرة حماس على البقاء في القتال لم تعتمد قط على الضغوط التي يفرضها حزب الله على إسرائيل. وفي حال اتخاذ نتنياهو قرارا بشن غزو بري لجنوب لبنان بهدف إكمال شلل حزب الله، فإنه بذلك يكون قد اتخذ خطوة بالغة الأهمية لمصلحة حماس، لا عسكريا وحسب وإنما من الناحية السياسية أيضا فالوفيات الإضافية والمزيد من الدمار والتشريد سوف تعرض إسرائيل المعزولة بالفعل لمزيد من الانتقادات في مختلف أنحاء العالم وقد يبلغ ذلك الحد الذي يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في الدعم غير المشروط تقريبا الذي قدمته لنتنياهو منذ السابع من أكتوبر.
• راجان مينون أستاذ فخري للعلاقات الدولية في كلية مدينة نيويورك، وباحث أول في معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام.
** عن نيوستيتسمان