No Image
ثقافة

"أبو حيان التوحيدي" رفيقي وصديقي!

28 سبتمبر 2024
28 سبتمبر 2024

(1)

ما يقرب من ربع القرن وأنا أحظى بصداقته ورفقة كلامه وآنس بكتبه ومؤلفاته! نعم أحببت أعاظم كتاب النثر العربي وقرأت كتبهم ومؤلفاتهم وتتبعتهم من عبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وحتى ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، ومن بعده كتاب التاريخ والحوليات والسير والتراجم وصولا إلى الجبرتي!

لكن يظل أبو حيان التوحيدي عندي هو بحق "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء" كما وصفه ببراعة واقتدار وحنكة ياقوت الحموي في «معجم البلدان». ولأنني أعاود هذه الأيام قراءة بعض من مؤلفاته وكتبه التي لا نظير لها في التراث العربي، وأتوقف عند بعضها وقفاتٍ طوالا متأنيا ومتأملا ومجتليا العديد من "الدلالات" و"التأويلات" فيما يخص هذا المثقف المهمش المغترب، ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية، فقد جادت علي الذاكرة بفيضها وأعادتني إلى اللحظات التي انعقدت فيها أواصر المحبة والصداقة بيني وبين "التوحيدي" في تسعينيات القرن الماضي.. مدين أنا لجمال الغيطاني حقيقة، ومدين أنا كذلك لأستاذي الراحل الجليل جابر عصفور، عليه رحمة الله.

(2)

في عام 1995 أقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر احتفالية ضخمة بمناسبة مرور ألف عام على وفاة الكاتب الأديب والمتصوف المتفلسف والحائر المغترب أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ)؛ صاحب المصنفات والكتب الشاهدة بقدر علمه ووافر اطلاعه وغزير ثقافته وتشعب معارفه، وصاحب الأسلوب الذي يكاد يكون ذروة ما وصل إليه النثر العربي الفني في القرن الرابع الهجري.

قبل هذا الاحتفال الثقافي الكبير، لم أكن أعرف عن أبي حيان التوحيدي سوى أنه مؤلف كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أحد أشهر كتب التراث العربي؛ في الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والتاريخ، وبالجملة فيما كان رائجًا من علوم عصره "النقلية"، و"العقلية" التي كانت سائدة آنذاك في القرن الرابع الهجري.

أذكر جيدًا أن اهتمامًا غير مسبوق بالتوحيدي خلال هذه السنة (1995)، والسنوات التالية أثمر عن نشاط واسع في الكتابة عنه، وإعادة نشر أعماله، وإصدار طبعات جديدة ومتعددة منها؛ وأصبحتُ إزاء مشهد غاية في التنوع حول "التوحيدي"؛ فمن كتب عنه من جهة نثره وبيانه، ومن كتب عنه من جهة حيرته واغترابه، وألمه ومراره، وبؤسه وشقائه، ومن كتب عن تصوفه ومواجده و"إشاراته"، ومن تصدى لإثبات زندقته وإلحاده!

وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري...

وهناك من استوقفه حاله وسيرته وتتبع مسار حياته ووفاته.. ووثق أعماله ورسائله ومخطوطاته.. إلخ.

ولعل هذا النشاط المحمود كله، كان سببًا رئيسيا في الإقبال على قراءة أعمال التوحيدي، وقراءة الكثير والكثير مما كتب عنه؛ باعتباره حلقة محورية من حلقات اتصال تراثنا الفكري والثقافي في القرون الخمسة الأولى من الهجرة.

(3)

وكان من أجلّ ثمار هذا النشاط المحموم المحمود؛ كتاب عظيم رائع اسمه «خلاصة التوحيدي»، عبارة عن مختارات من نثر التوحيدي (سأعرض نماذج منها سريعًا)، جمعها بذائقته الممتازة الرفيعة واختياراته البديعة المثقف الراحل الكبير جمال الغيطاني (وكان من كبار قراء التراث والمطلعين على دقائقه وكنوزه والعارفين بحدوده وتفاصيله). اسمع بقلبك واقرأ بعينيك هذه السطور:

- "يا هذا: الحديث ذو شجون، والقلب طافح بسوء الظنون". (الإشارات الإلهية)

- "فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُر أو نَعَم؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن الشفاء فيها؟.." (الإشارات الإلهية)

"فإني أجد الإنسانَ ونفسَه كجارين متلاصقين، يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران".. (المقابسات)

- "والله يا رفيقي وشريك زادي، لقد صحبت الليالي ستين عامًا مُذْ عقلت، فما غدرني إلا من استوفيتُه، ولا كدّر عليَّ إلا من استصفيتُه، ولا أمرَّ لي إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمري إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عيني إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهري إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لي نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب".. (الإشارات الإلهية)

- ويقول أبو حيان التوحيدي:

«وحين يبلغ العجز آخره، ويستغرق اليأس ظاهره وباطنه.. أي رأي لمكذوب؟ أم أي عيش لمكروب، أم أي قرار لمرعوب؟.. إرادة مشوبة.. وعلامات متهمة، وطمأنينة قلقة».. (الإشارات الإلهية)

- وفي رواية عن أبي حيان التوحيدي، في كتابه «الصداقة والصديق»، أنه لا يكون الصديق صديقا إلا إذا وصلت به حال صداقته لأن يقول له "يا أنا".. (الصداقة والصديق)

وكانت النماذج التي قرأتها في هذه "الخلاصة" كافية تمامًا كي أقبل على قراءة نصوص التوحيدي الزاخرة بشغف وفضول كبيرين.. وبدأت هذه الرحلة بالخلاصة ولما تنته حتى وقتنا هذا!

(4)

لماذا أحببتُ التوحيدي؟ ولماذا رافقت نصوصه وصادقته على بعد العهد وتجاوز العقود وتباعد القرون؟

أولًا: أنت بإزاء شخصية شديدة التركيب والتعقيد على المستوى النفسي؛ جسدت تناقضات عصرها وتشابكاته والتباساته بامتياز؛ يقولون عن أبي حيان التوحيدي إنه نموذج للمثقف "الإشكالي" في القرن الرابع الهجري؛ بمعنى إدراكه العميق لكل التفاوتات الطبقية "في الوعي، وفي المعرفة بين شرائح الطبقات المثقفة الثرية في مجتمع المدينة الإسلامية الناهضة (بغداد) ومن هم في دائرة السلطة والجاه والنفوذ وبين الطبقات الدنيا والفقيرة بل المسحوقة؛ فيما اشتهر بمصطلح "المهمشين".

ثانيا: كان نثر أبي حيان التوحيدي بما وصل إليه من ذروة لم يسبقه إليها (ربما سوى الجاحظ) ولم يلحقه في الفضل بعده أحد، مجسدا لما بلغته اللغة العربية في زمنه من تطور مذهل استوعب كل مستجدات العصر "الذهبي" من انفتاح على العلوم العقلية والتجريدات الذهنية والترجمات وعلوم المنطق والفلسفة والجدل العقلي؛ وصار السؤال شعار العصر؛

وكان "التوحيدي" أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول؛ إنها كتابة تتأمل ذاتها بقدر ما تتأمل غيرها، وتطرح السؤال تلو السؤال، مثيرة من عواصف الشك وزوابع المسائلة بما يزعزع أركان اليقين المعرفي والوجودي معا؛ كتابة يصفها جابر عصفور بقدرٍ كبير من التطابق مع ما وصفها به صاحبها ذاته "التوحيدي"؛ بحروفه وألفاظه، وتعبيراته وتراكيبه:

"كان هذا النوع من الكتابة ينطوي على وعيه الذاتي، حيث الكلام يصف الكلام، واللغة تضع نفسها موضع المساءلة، والكتابة نفسها لا تكفّ عن تغيرها الذي هو نقض لكل عناصر الثبات. إنها الكتابة التي تأخذ من التصريح ما يكون بيانًا في التعريض، وتحصل من التعريض ما يكون زيادة في التصريح، وتستيقن أنه لا حرف ولا كلمة، ولا سمة أو علامة، ولا اسم أو رسم، إلا وفي مضمونه آية تدل على سرٍّ مطوي وعلانية منشورة. كتابة تعلو على ما جرَت به العادة، وتعرف أسرار الإيماء الذي يلطف عن الوهم، ويستغيث من الشكل والضد، ما يمتلئ به القارئ نورًا، ويتقد بحره نارًا، ويتعلم كيف تفارق المدركات سماتها القائـمة عليها، وتعاند صفاتها الثابتة بها، وتلج الكتابة الطرق الوعرة، معتسفة مضايقها، لتخرج من ظلمة التصديق إلى النور الذي يضيء بالسؤال، والسؤال الذي لا يسقط، قط، دون الغرض المعتمد.