حزن ورعب مع اندلاع الحرب في لبنان
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
عندما تبدأ أي حرب فـي الشرق الأوسط، يقول الكثير: «لقد شاهدنا هذا الفـيلم من قبل». لكن الأمر ليس بهذه السطحية، فكل حرب هي كارثة فريدة من نوعها، ولها مزيج خاص من الأسباب والنتائج المروعة. كل طفل بريء يموت فـي هذه الحرب هو روح إنسانية لن يتم استبدالها أبدًا.
لقد قمت بتغطية الشرق الأوسط لمدة 45 عامًا تقريبًا، وقد أصبحت أكره هذه الحروب والمعاناة الهائلة التي تجلبها لكل من الإسرائيليين والعرب. الأمر أشبه بمشاهدة الناس وهم محاصرون بينما يقترب إعصار عنيف. وفـي كل مرة، تأمل أن ينقذك هذا الإعصار من الموت. إنهم قادرون على الفرار وتجنب الكارثة، ولكن فـي كثير من الأحيان لا يتمكنون من ذلك.
ربما بدا امتداد حرب غزة إلى لبنان هذا الشهر أمرًا لا مفر منه، لكنه لم يكن كذلك. كانت هذه حربًا يأمل الجانبان تفاديها. كانت إدارة بايدن، التي تدرك التكلفة الفادحة، تحاول إيجاد مخرج لمدة 11 شهرًا. لكن المنطق القاسيَ للحرب أثبت أنه أقوى من المنطق الناعم للسلام. لن يتوقف حزب الله عن إطلاق الصواريخ؛ ولن تتوقف إسرائيل عن الانتقام. صعد الجانبان السلم، ولم تتمكن الولايات المتحدة من إيقافهما.
إن العديد من الناس يشعرون بالتزام أخلاقي باختيار أحد الجانبين فـي هذه الحروب. أنا صحفـي، ومن واجبي أن أتحدث إلى كل المتحاربين، إذا استطعت. ولكن هذا لا يعني أنني لا أملك آراء. فأنا أعتقد أن حكم حماس كان مأساة للفلسطينيين فـي غزة وتهديدًا لإسرائيل. وأعتقد أن حزب الله اختطف لبنان وتلطخت أيديه بدماء مئات الأمريكيين.
ولكنني رأيت إسرائيل ترتكب بعض الأخطاء المتكررة أيضًا. ومن المؤلم أن نراها، إذا كنت مثلي تعدّ إسرائيل بمثابة قاعدة متقدمة للديمقراطية فـي الشرق الأوسط.
إن ما أشاهده الآن فـي لبنان يشبه إلى حد كبير ما رأيته فـي عام 1982 عندما كنت مراسلًا شابًا فـي بيروت أغطي الغزو الإسرائيلي فـي ذلك العام. كانت المشكلة، آنذاك كما هي الآن، هي المبالغة فـي الطموح. كانت إسرائيل تريد أن تصل إلى جذور المشكلة، وأن تسحق عدوها الرئيسي فـي ذلك الوقت، منظمة التحرير الفلسطينية. لم يعد هناك أي حل وسط، بل يجب استخدام كل الأسلحة المتاحة.
كانت إسرائيل تتمتع آنذاك بهيمنة عسكرية واستخباراتية مبهرة، تمامًا كما هي الحال الآن. فقد وصلت قواتها إلى ضواحي بيروت فـي غضون أيام. ولكن ماذا بعد ذلك؟ لقد كانت القوة الساحقة التي امتلكتها إسرائيل تخفـي وراءها ضعفًا استراتيجيًا: فلم يكن لدى قادتها إجابة جيدة على السؤال: «أخبرني كيف ينتهي هذا الأمر». واستمر حصار بيروت حتى تمكن الوسيط الأمريكي أخيرًا من التفاوض على خروج زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ومقاتليه. وهكذا وقعت إسرائيل فـي مكان تبين لاحقا أنه كان مستنقعا.
لقد كان من حسن حظي فـي ذلك الوقت أن أتمكن من التحدث مع زعماء إسرائيليين، مثل رئيس الوزراء مناحيم بيجين، فضلًا عن مسؤولين فلسطينيين. وكانت آخر مرة زرت فـيها بيجين فـي أغسطس 1983، بعد أن تفاقمت الحرب فـي لبنان. وقد وصفت الزعيم الإسرائيلي بأنه «الأسد فـي الشتاء»، وفكرت فـي الخسائر فـي لبنان والصدمة التي أحدثتها الحرب لشعبه.
قال يحييل كاديشاي، السكرتير الشخصي لبيجن وزميله منذ أيام منظمة إرجون السرية واصفا بيجَن، «الحقيقة أنه حزين. إنه شخص لا يستطيع أن يظهر وجهه الضاحك عندما يكون الحزن فـي قلبه».
أوضح مساعدوه أن بيجن كان يطلب أن يتم إطلاعه كل يوم على أحدث أرقام الضحايا فـي لبنان وأسر كل جندي إسرائيلي لقي حتفه. كان يعتز بإسرائيل، لكن الأصدقاء أخبروني أنه فـي حالة الاكتئاب التي انتابته كان يخشى أن يكون قد ترك إسرائيل وهي أضعف مما كانت عليه.
إن صعود حزب الله له معنى خاص بالنسبة لي أيضًا. لقد زرت السفارة الأمريكية فـي بيروت 18 أبريل 1983، وغادرت قبل نصف ساعة تقريبًا من هدم المبنى بسيارة مفخخة. وفـي معظم السنوات منذ ذلك الحين، أتبادل الرسائل مع مسؤولة السفارة التي رافقتني إلى المصعد فـي ذلك اليوم. لقد أرسلت لي رسالة بالبريد الإلكتروني الأسبوع الماضي، بعد أن قتلت غارة جوية إسرائيلية إبراهيم عقيل، أحد الذين خططوا لتفجير السفارة فـي ذلك اليوم. يكفـي أن أقول إنها غير حزينة على فقدان عقيل.
إننا نتحدث كثيرًا عن العواقب غير المقصودة للحرب. والحقيقة المروعة هي أن حزب الله ذاته كان فـي بعض النواحي نتيجة للغزو الإسرائيلي فـي عام 1982. فمن خلال طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أزالت إسرائيل القيد الرئيسي ضد قوة الميليشيات. وبدأت كوادر ما أصبح حزب الله تتجمع على الفور تقريبًا بدعم سري من إيران. وعلى مدى السنوات الأربعين التالية، أرغم حزب الله لبنان على الخضوع.
كان حسن نصر الله، زعيم حزب الله، من بين الشخصيات غير المتوقعة التي أجريت معها مقابلات على مدى عقود من الزمان. لم يكن ذلك الرجل الشرير. ففـي إجابته على أسئلتي، كان ذكيًا وسريع البديهة. وبدا وكأنه مفتون بفكرة التحدث مع أمريكي، وكأنها فكرة جديدة.
ولكن ما أتذكره أكثر من أي شيء آخر هو التفتيش الأمني المكثف الذي سبق المقابلة. فقد قام حراسه الشخصيون بتفكيك أقلامي ودفاتري ومحتويات محفظتي بحثًا عن قنبلة إسرائيلية مخفـية أو جهاز مراقبة. والحمد لله أن هذا كان فـي أيام ما قبل أجهزة النداء. فقد تعرضت المنطقة التي التقيت فـيها بنصر الله فـي الضاحية الجنوبية لبيروت لقصف جوي إسرائيلي فـي الأسبوع الماضي.
من المفترض أن تكون الذاكرة واضحة، ولكنها قد تكون أيضًا ضبابية. قد تعتقد أنك تعرف إلى أين أنت ذاهب، ولكن عندما تحدث أحداث مفاجئة، فإنها تمحو الماضي وكل ما تراه هو الحاضر، والحاجة إلى التصرف. ثم تجد نفسك فـي مكان لم يكن من المفترض أن تكون فـيه أبدًا.
أرجو أن أملك إجابات على الأسئلة التي تطاردنا جميعًا ونحن نشاهد الشرق الأوسط وقد تمزقه حرب متصاعدة الاتساع. والأمر الوحيد الواضح بالنسبة لي هو أن النصر الكامل ليس سوى وهم فـي هذا الصراع، وأن الأمن يشكل ضرورة أساسية.