لن تأمن إسرائيل لوقت طويل

22 سبتمبر 2024
22 سبتمبر 2024

ترجمة أحمد شافعي

لعلهم تصوروا أن العالم سوف يصفق لهم. من المؤكد أن المخططين الإسرائيليين لإحدى أكثر العمليات المخابراتية إبهارا فـي تاريخ إسرائيل ـ أي عملية استهداف الآلاف من عناصر حزب الله فـي لبنان وما وراءها بتفجير أجهزة البيجر فـي جيوبهم ـ كانوا يتوقعون تصفـيقا حارا بسبب جسارتهم العظيمة.

هذه خطة يجري العمل عليها منذ سنين، ويبدو أنها تضمنت شركة تصنيع زائفة حصلت على عقد لإمداد حزب الله بأجهزة البيجر ثم أدخلت عليها تعديلا سريّا جعل منها قنابل تعمل بالتحكم عن بعد، فهي خطة تليق بأعمال هوليود. لكنني أظن أن الموساد قد أراد من ورائها أكثر من محض الثناء على براعته التقنية والتخطيطيةأولا، لم يكن الهدف جماعة فلسطينية وإنما حزب الله. ولم تجر العملية فـي أرض تحتلها إسرائيل، وإنما فـي لبنان، التي له فـيها نفوذ كبير. والأكثر من ذلك أن حزب الله لم يكن مقتصرا على شؤونه فقط خلال هذا العالم، فهو منذ السابع من أكتوبر يقصف شمالي إسرائيل ويصب نيرانا يومية على سكان المنطقة محيلا مجتمعاتها إلى مدن أشباح ومرغما أكثر من ستين ألف إسرائيلي على النزوح من منازلهم.

وأهم من كل شيء أنه كان متوقعا أن تحظى العملية بالاستحسان، فقد وصفها لي خبير مخابرات بريطاني بالضربة «الدقيقة مذهلة الدقة، بمعنى أن الوحيدين الذين يحملون هذه الأجهزة هم أعضاء حزب الله وعناصره». (وما كان حمل السفـير الإيراني فـي بيروت أحد تلك الأجهزة إلا تأكيدا لمدى التقارب والترابط العسكري بين طهران وحزب الله). ومن هذه الزاوية، وحتى مع مراعاة وقوع كثير من الخسائر بين المدنيين، فإن ما جرى يوم الأربعاء كان «أدق مما كان يمكن تحقيقه فـي ضوء حجم العملية».

لكن إذا تصور الموساد وقادته السياسيون أن هذا الموقف سوف يكون مطلقا، [أي أن الإعجاب بعمليتهم سوف يكون عاما]، فلا بد أن الإحباط نال منهم. لأن الهجمة قد اعتبرت فـي أوروبا وأماكن أخرى هجمة عشوائية، لأنه ليس محتوما أن كل عنصر من عناصر حزب الله كان وحده عند انفجار الجهاز ـ بل لقد كان البعض منهم شديدي القرب من مدنيين ومنهم أطفال ـ ولأن الخوف الذي تسببت فـيه العملية فـي لبنان هو الآخر لا يميز بين الناس. فالبشر العاديون الذين يمارسون حياة عادية الآن فـي بيروت أو فـي صيدا ينتابهم القلق والتوتر من أي شخص يحمل جهازا إلكترونيا ظانين أنه قد يكون عضوا فـي حزب الله. ولهذا السبب وصف نائب رئيس وزراء بلجيكا العملية بـ«الهجمة الإرهابية».

كثيرون فـي إسرائيل سوف يعرضون عن هذا الحديث كله، ويخلصون إلى أن حرب غزة الجارية على مدار العام الماضي قد استنزفت ـ فـي بعض الأرجاء ـ كل نية حسنة تجاه بلدهم أو تفهم له، لدرجة أن تدان إسرائيل حتى حينما تستهدف عناصر مقاتلة معادية. وسوف يقول آخرون ـ بل إنهم يقولون بالفعل ـ إن هذا التفهم لم يكن قائما فـي الأساس فـي أي وقت، وإن أغلب العالم معاد لإسرائيل ولحاجتها إلى الدفاع عن نفسها، وإن إسرائيل سوف تلام مهما يكن ما تفعل.

وهذه العقلية مهمة، لأنها تشير إلى المشكلة الأوسع والأعمق التي لا تمثل هجمة هذا الأسبوع القاتلة إلا محض عرض من أعراضها. ويمكنكم أن تبصروا هذه المشكلة فـي الاعتراضات على عملية البيجر داخل إسرائيل وبين أصدقائها.

لقد سلَّم المنتقدون سريعا بأن الضربة كانت بارعة تكتيكيا. لكنهم تساءلوا عن الاستراتيجية. فحينما تحدثت مع المحلل العسكري البارز فـي إسرائيل عاموس هاريل من صحيفة هاآرتس قال إنها «محض عملية جيمس بوندية، لكن إلى أين تمضي بنا؟ هل هي ذات قيمة استراتيجية؟». ويزداد السؤال حدة حينما تعلم أن السبب الذي دعا إسرائيل إلى الضغط على الزر فـي هذا الأسبوع هو خوفها من أن تكون حيلة الموساد قد انكشفت، وأن حزب الله قد بدأ يشك فـي أن أجهزته تعرضت لاختراق. ولو قسنا بمقياس القرارات الاستراتيجية التي يمكن أن تفضي إلى حرب شاملة فإن منهج «إما أن تستعمل شيئا أو تخسره» هو منهج شديد التهافت.

يتساءل البعض عما لو أن الهدف من تفجير أجهزة البيجر ومن موجة الضربات الجوية الإسرائيلية الكثيفة فـي ليلة الخميس لا يتمثل فـي الدفع إلى مواجهة كبيرة مع حزب الله، وإنما الهدف على العكس من ذلك يتمثل فـي الضغط على قائد الجماعة حسن نصر الله لتقليل أو إنهاء هجماته على شمالي إسرائيل، فهو تصعيد بهدف منع التصعيد. لو أن هذا هو التفكير، فما من إشارة حاضرة إلى فلاحه. فقد شهد صباح يوم الجمعة تكثيف حزب الله قصفه الصاروخي عبر الحدود.

والانتقاد الذي ينطبق على الصراع فـي الشمال ينطبق على الجنوب. فمواجهة إسرائيل مع حماس تتسم بفجوة واسعة مماثلة ينبغي أن تملأ الاستراتيجية فراغها. فمن الناحية التكتيكية قامت إسرائيل بالكثير من أجل إضعاف قدرة حماس. لكن قد لا يمر وقت طويل قبل أن تجد نفسها تلعب لعبة مطاردة عبثية، فتدفع العدو إلى مخبأ تحت الأرض فـي موضع ليظهر لها من باطن الأرض فـي موضع آخر.

وتتساءل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرهما من الحلفاء وكثير من الإسرائيليين عن الاستراتيجية بعيدة المدى، أو حتى متوسطة المدى. ما خطة نتنياهو لليوم التالي؟ وفـي ضوء أن قادة دفاعه أنفسهم يخبرونه بأن هدف «الانتصار التام» الرسمي والقضاء على حماس مستحيل، فمن سيحكم غزة بعد أن يتوقف القتال فـي نهاية المطاف؟ وماذا بالضبط تكون الخطة لكيفـية تعايش إسرائيل والقطاع جنبا إلى جنب؟

ويمكننا أن نتوسع ونطرح السؤال الذي قال لي قائد أمريكي سابق رفـيع المستوى إنه طرحه على صناع القرار فـي إسرائيل عقب السابع من أكتوبر. ما الاستراتيجية التي تجعل العاديين من أهل غزة، بل ومواطني المنطقة عموما فـي واقع الأمر، أقل تأثرا برسالة حماس وحزب الله والحوثيين فـي اليمن وبقية محور المقاومة التابع لإيران، وتجعلهم أكثر تقبلا للتعايش مع إسرائيل؟

الإجابة التي طرحتها إسرائيل لهذا السؤال على مدى أغلب تاريخها الممتد لستة وسبعين عاما تركزت على القوة. ومفادها أن إسرائيل المحاطة بجيران معادين ستصبح شديدة القوة عسكريا بحيث تخلص المنطقة برمتها فـي نهاية المطاف إلى أنه لا يمكن أن تزاح بقوة السلاح. فهي لن تلقى الترحاب أبدا، ولكن بوسعها على الأقل أن تلقى قبولا على مضض باعتبارها جزءا من حقائق الحياة.

لكن هذه العقيدة أضعفت قدرة إسرائيل على الرؤية الواضحة. فمن يحمل مطرقة، تبدو له كل مشكلة أشبه بمسمار، وإسرائيل أصبحت كذلك بالضبط، فهي عاجزة عن رؤية طرق أخرى.

والمسار البديل هو الدبلوماسية. لكن قولوا هذا لأغلب الإسرائيليين وستجدونهم يضحكون فـي وجوهكم مما تقولون. «ماذا؟ أتريد صفقة مع نصر الله أو يحيى السنوار جزار السابع من أكتوبر؟». واضغط عليهم أكثر فسيقولون إنهم جربوا التنازل من قبل، سواء فـي اتفاقيات أوسلو سنة 1993 أو فـي الانسحاب من غزة سنة 2005، فتأمل كيف نجح الأمر.

ولكن هذا يعني إهدار فرصة كانت قائمة طوال الوقت، وقد ظهرت بوضوح تام قبل أشهر قليلة. ففـي أبريل، حينما أطلقت إيران هجمة مسيرات وصواريخ على إسرائيل، لم تعترضها إسرائيل وحدها وإنما اعترضها تحالف تضمن ثلاث دول عربية وهي قوس من البلاد المعارضة لإيران.

ولم يزل متاحا لإسرائيل مكان وسط أولئك الحلفاء، أساسه التطبيع مع المملكة العربية السعودية، إن هي شاءت أن تحتله. وقد كتب جو بايدن اسمه على هذا المكان. وسيكون الثمن هو شروع إسرائيل فـي ما يطلق عليه الدبلوماسيون المسار ذا المصداقية نحو الدولة الفلسطينية التي لا تمثل إقامتها فـي نهاية المطاف حقا بديهيا للفلسطينيين وحسب وإنما تمثل أيضا شرطا مسبقا لضمان بقاء إسرائيل على المدى البعيد.

لن يقوم نتنياهو بهذه الخطوة. فهو لا يفكر إلا فـي إحكام قبضته على السلطة، ويعيش من ساعة إلى ساعة، لكن زعيما إسرائيليا فـي يوم ما سوف يضطر إلى القيام بالخطوة. وعندما يحدث ذلك سيكون هو العملية الأمنية الأجدر بالحفاوة على الإطلاق.