المستقبل.. وبناء الثقة بين الشعوب ومؤسساتهم
يخبرنا التاريخ أن أكثر الدول قوة ومنعة تلك التي تكون الثقة المتبادلة فيها بين المواطن ومؤسسات بلده قوية جدا، والشعب يثق بشكل كبيرا في حكومته وفي خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وتتحول هذه الثقة إلى أحد أهم الأعمدة التي يقف عليها استقرار المجتمع وازدهاره ورخاؤه، ويزدهر في ظلها العمل المشترك وتحقيق الأهداف الوطنية ويقوى الترابط المجتمعي.
وعبر هذا التاريخ وتجاربه كانت هذه الثقة أكبر بكثير من مجرد رفاهية سياسية أو مظهر من المظاهر الاجتماعية، فهي على الدوام قوة أساسية للتقدم الاقتصادي والاستقرار المجتمعي.
وعبر التاريخ كانت الحكومات والقيادات المخلصة لشعوبها تحرص بشكل واضح على تعزيز الثقة وتأكيدها عبر العمل من أجل رفاه الشعوب وتطويرها وتجنيبها التحديات التي يفرزها الزمن عبر حركته المستمرة وعبر تفاعل الشعوب نفسها مع تلك الحركة التطويرية التي لا تتوقف أبدا.
لكن حركة الزمن وتفاعل الشعوب معها أظهرت خلال العقود الماضية ثورة تكنولوجية ومعلوماتية نتج عنها أدوات جديدة لم تكن سائدة في المجتمعات، ورغم أهمية تلك الأدوات في تسهيل حياة الناس وحل الكثير من تعقيداتها إلا أنها مع الوقت أظهرت وجها آخر تم به ضرب تلك الثقة المتبادلة في الشعوب وبين مؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. وفي الكثير من الأحيان كانت هذه العملية تتم بشكل ممنهج ومقصود وهدفه واضح لا مراء فيه. لكن في أحيان أخرى كانت العملية تتم دون قصد واضح أو نية تدميرية وإنما عبر غياب الوعي بالنتيجة أو لأسباب شخصية وفردية.
هذا الأمر يدعو الجميع إلى الحذر من المسارين؛ فنتيجتهما واحدة في الغالب وتأثيرهما خطير، ومجتمعاتنا لا تحتمله ودولنا لا تستحق.
إن نشر المعلومات غير الدقيقة أو المضللة عن مؤسسات الدولة دون التحقق من مصداقيتها يؤدي نفس الهدف الذي عبره يسعى الأعداء إلى النيل من الدول المستقرة التي تقدس فيها المؤسسات علاقتها بالمواطنين والمستفيدين منها وتعمل من أجلهم حتى لو وقعت في بعض الأخطاء أو واجهت بعض التحديات. وهذا الأمر يحتاج إلى وعي مجتمعي قوي بهذا الخطر ونتائجه. قد يكون الدافع وراء ذلك في الغالب هو الرغبة في التعبير عن رأي أو نشر شيء مثير للاهتمام، لكن تلك المعلومات غير المدققة تساهم في خلق صورة سلبية عن المؤسسة، وهي بدورها تعزز الشكوك حول كفاءتها أو نزاهتها.
وإذا كان نشر تلك الأخبار يفعل ذلك في بنية الدول وفي كينونة مؤسساتها فإن التفاعل مع مثل تلك الأخبار يقوم بالأمر نفسه حتى مع اختلاف الأساليب والنوايا.
ومن بين الأساليب المنتشرة في مختلف المجتمعات الشرقية والغربية أسلوب النقد، أو ما يعتقد البعض أنه نقد، ولكنه بعيد عن ذلك؛ لأنه نقد عشوائي أو عاطفي في أفضل الأحوال وهو مبني على تجارب شخصية سلبية دون الأخذ في الاعتبار السياق الكامل أو الحقيقة. وهذا النوع من النقد يمكن أن يؤدي إلى نشر حالة من الإحباط العام وعدم الثقة في المؤسسات.
وانتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة تضخيم بعض التحديات أو المشكلات، حيث يتم التركيز على مشكلة معينة تعاني منها مؤسسة ما، ويتم تداولها بشكل مكثف دون الإشارة إلى الحلول أو التحسينات التي قد تكون قيد التنفيذ وهذا التضخيم يجعل البعض يعتقدون أنه الحقيقة الدقيقة وأن كل المؤسسات تعاني من نفس المشكلات ودون أن تكون هناك جهود لتجاوزها.. وإضافة إلى ذلك هناك توجه غريب سائد في السنوات الأخيرة يتم عبره تجاوز الإيجابيات مهما كانت كبيرة وحاضرة في كل تفاصيل حياتنا والتركيز على السلبيات في حين أن النقد البنّاء الحقيقي يكون منصفا ويرسم الصورة الكاملة.
ومن بين الظواهر التي لا يعي الجميع خطورتها في هذا السياق ظاهرة تكثيف نشر المحتوى الساخر أو التهكمي الذي يزيد من التشكيك العام في جدية وكفاءة المؤسسات. قد تكون السخرية في السياق الفني عندما تكون موظفة بشكل مهني مفهومة ولكن دون أن تكون هي الأساس وما عداها هو الاستثناء.
إن بناء الثقة المجتمعية أمر مهم جدا، وقد يبدأ من فهم حقيقة ما يجري ونتائج هذه التوجهات التي لا يكون هدفها الحقيقي الهدم، رغم أنها قد تقود إلى ذلك مع الأسف الشديد. وعلى المؤسسات من جانب آخر أن تعرف كيف تكون قريبة من الناس، وتدرك آلية التواصل معهم دون إبطاء وتظهر لهم مستوى مرضيا من الشفافية والمصداقية الأمر الذي يساهم مع الوقت في تعزيز الثقة المتبادلة وهذا يتم عبر إشراك المواطن في الرأي وفي آلية التنفيذ.. لكن أيضا لا بد من تعزيز الوعي بطرق النقد وبالتفكير الناقد الذي يسعى دائما للبحث عن الحقيقة وعدم الدخول في دائرة التضليل أو تعميم التجارب الشخصية السلبية للاعتقاد أنها هي التجارب الأساسية في المجتمعات. فمسار المستقبل لا يستقيم أبدا دون ثقة واحترام بين الفرد وبين منظومة المؤسسات التي تشكل حياته ومساراتها.