الربيع الصيني والرقصة الأخيرة
يرى المفكرون المستقبل أفضل وأبعد مما يراه بقية الناس، وهذا ليس إلا للمفكر الحر، لأن المفكر الذي يروّج لفكرة ما، تدعمها جهةٌ ما، أو المفكر الممول من مؤسسة بعينها؛ ينطق عادة بما تمليه عليه أوامر واتجاهات تلك المؤسسة وبما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية وغيرها، مما يسهم في نهاية المطاف في تشكيل وعي معين تجاه قضية بعينها أو عدة قضايا للناس المرتبطة مصائرهم بتلك القضايا، دون اعتبار للحقائق والنتائج المستنبطة بصدق. لذلك كان التاريخ الشاهد الأكبر على المفكرين ورؤاهم، بل والحكم العادل فيما ذهبوا إليه وبشّروا به؛ فالمفكرون الذين رأوا زوال ممالك في أوج قوتها وعللوا تلك الأسباب، تبيّن صدقهم بعدما زالت تلك الممالك، والمفكرون الذين رأوا الاتجاه البشري السائر في النتيجة الحتمية ولتكن (A)، كان نتاجا للأسباب (B) التي ذكروها في دراساتهم ومحاضراتهم، طال زمان تحقق تلك الرؤى واستشراف المستقبل، أم قَصُرَ.
فالمفكرون الكبار يتعاملون مع دلائل وقرائن ومؤشرات ووقائع وأحداث، لا بما يأملون ويرغبون بأن يتحقق واقعا؛ لذلك نجدهم -وإن تألموا- في أوقات الأزمات المفجعة، أكثر صبرا وأشد بأسا بما تأكد لديهم من زوال تلك الغمامة الشاحبة التي سيعقبها نور ساطع يكتسح الظلام اللحظي. وكما هو معلوم، فإن غزة أعادت إلى العالم كثيرا مما ظننا جميعا أنه انتهى وانقضى، في حين كان بعض المفكرين يرون أن ما حدث، نتيجة حتمية وفق القرائن الخاصة والمؤشرات التي اعتمدوها في تكوين رؤيتهم للسيرورة الحتمية للأحداث. إن أبسط قارئ لما يدور في العالم اليوم من مآسٍ، يدرك الخطر العظيم والصفيح الساخن الذي نقف جميعا فوقه، نتيجةً لتحكّم قوة مهيمنة واحدة في مسار العالم وتحديد ما ينبغي أن يكون ويتم فيه، وما لا ينبغي بالضرورة كذلك. وقد كنت ممن يظن أن تحكّم اللوبي الصهيوني ومنظمة آيباك في السياسة الأمريكية، محض هراء بحت؛ فلا يعقل أن تكون القوة الأكبر في العالم رهنا لعدة أشخاص يتحكمون في من يحكم تلك القوة ويرسمون سياسات العالم أجمع! لكن طوفان الأقصى أثبت قوة اللوبي الصهيوني في رسم السياسة الأمريكية، كما أثبت أمورا أخرى رآها مفكرون منذ زمن طويل، وقبل أن تبدأ براعمها في النمو.
في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي، توفي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر على الإطلاق، هنري كيسنجر. وقد ظل كيسنجر يرسم ملامح السياسة الخارجية الأمريكية ويؤثر فيها حتى قرب وفاته، ومهما يكن ما فعله هذا الرجل من مآسٍ ذاقت مرارتها بعض دول العالم، كان للدول العربية والإسلامية نصيب وافر منها؛ فقد كان لكيسنجر رؤيته الخاصة في توطيد الهيمنة الأمريكية باعتبارها مهمته الرئيسة، وعمل على ذلك بشتى الطرق. ولذلك فقد حذّر منذ سبعينيات القرن الماضي بأن البعبع القادم في السياسة العالمية ليس الاتحاد السوفييتي المناظر لأمريكا قوةً ونفوذا حينها؛ بل التنين الصيني، الذي كان وقتها مجرد بلد فقير خارج من مجاعة لا يمكن تصورها بحال. خرجت الصين من المجاعة إذن، وإذا كان العالم يتحدث عن «المعجزة الألمانية» المتمثلة في إعادة بناء ألمانيا لقوتها وكيانها بعد السحق والدمار الذي تعرضت له إبّان الحرب العالمية الثانية، فإن الصين حققت معجزة أخرى مماثلة للمعجزة الأوروبية، بل وفاقتها من حيث النمو الاقتصادي والعسكري والجيوسياسي.
بشّر عدد لا بأس به من المفكرين المستقلين أو الممولين -على السواء- بالحرب القادمة، ومن مكاسب الحرب أو التلويح بها أن تكون وسيلة لتشتيت الداخل حين يبدو أنه ثائر مقبل على الانفجار؛ فبدلا من عمل إصلاحات داخلية حقيقية، يتم استعمال ورقة العدو الخارجي لتوجيه الناس ناحية الخطر المحدق ويتناسوا الخطر الحقيقي الكامن في الداخل. لذلك كانت الولايات المتحدة تتعامل مع الاتحاد السوفييتي باعتباره الخطر الأبرز، ثم توجهت ناحية الإسلام فعدّته الخطر القادم الذي يواجه الغرب «المتحضر».
لماذا الإسلام إذن؟ وهل هي حرب دينية حقا؟ وما علاقة الصين بهذا كله؟ لم تكن الحروب الآتية من الغرب دينية يوما، بما في ذلك الحروب الصليبية ذاتها؛ بل هي حرب نفوذ وثروات وسيطرة على التجارة والمضايق والاقتصاد العالمي. فالشرق الأوسط يتميز بموقعه الذي يشبه قلب العالم، وبموارده الخام التي تحتاج إليها كل إمبراطورية. فكي تعبر إلى آسيا بقطبيها الصيني والهندي، لا بد أن تمر عبر الجزيرة العربية، وكي تعبر من آسيا إلى أوروبا، فلا بد أن تمر عبر الجزيرة العربية، وهي في المنتصف بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلا تستطيع دولة إغفال أهمية هذه المنطقة المفصلية حتى لو نضب النفط ولم تتبق قطرة منه. ولأن الدين يقع في قلب ثقافة الشعوب، فلا بد أن يكون له وزنه الخاص ومكانته الحساسة في التعامل معها؛ فكيف إذا كانت الشعوب المراد التعامل معها تستوطن أهم موقع جغرافي في العالم؟ بل وفي الموقع الجغرافي الأكثر وفرة من ناحية الموارد الطبيعية وتنوعها، هنا تختلف الحسابات وتصبح المهمة أكثر جدية والعمل أكثر مشقة على الغزاة والحكومات على السواء. لذلك ظهرت دراسات عن الإسلام وفِرَقه الدقيقة في وقت متقدم من التاريخ، عبر حملات الرحالة والمبشرين والتجار التي كانت جاسوسية استطلاعية في قلبها، والحملات العسكرية الواضحة الأهداف.
وباستعمال أدوات تحليل المجتمعات وطريقة تفكيرها، تمت ملاحقة كل ما يمت بالشيوعية والاتحاد السوفييتي ووصمها بأنها جماعات إلحادية لا تؤمن بوجود الله، في حين أن تلك الثلة من الشعوب كانت تسعى للتحرر من نير الظلم ليس إلا، فالشعوب لا تكترث عادة بنظام الحكم بقدر اكتراثها بالحياة الكريمة ولقمة العيش. استعمل الغرب ورقة وصم الجماعات المناهضة له ولمصالحه بالإلحاد إذن، وبطبيعة الحال فإن شعوب المنطقة المتدينة ترى في النصراني المسلم خيرا أكثر مما تراه في الملحد! لذلك تغلغل اقتراب شعوب المنطقة -وحكوماتها، بغض النظر عن مَن تبع مَن- من الغرب مقابل النفور من الاتحاد السوفييتي، في علاقة اتسمت في جوهرها بالاستعباد.
في خِضَمِّ هذا كله، كان وجود كيان الاحتلال بوصفه قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في الشرق الأوسط أمرا جوهريا لا مساس به. ولكن المعادلة انقلبت رأسا على عقب بعد توغّل اللوبي الصهيوني في السياسة الغربية وتحريك مصالحها، وهو ما أسهم في تركيز الدول المساندة للاحتلال على دعمه عسكريا وسياسيا، في وقت غفل فيه عن مراقبة التنين الذي ينمو بسرعة في الشرق، مستغلا اشتغال القوى العظمى التي تكبحه في معركة خاسرة إنسانيا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا. ففي الوقت الذي اختارت الدول الغربية فيه أن تتبنى رواية الاحتلال وتدعمه وتنافح عنه، كانت الصين وروسيا تستغل هذا الاشتغال بالتوغل في الشرق الأوسط وتبني تحالفاتها فيه بسلاسة وهدوء حينا، وبصراحة تامة أحيانا أخرى؛ فهل ستستغل دول المنطقة هذا الأمر لصالحها؟ هذا ما سنعرفه وستبينه الأيام، ولكن في هذه المرحلة الانتقالية المفصلية في التاريخ، يجب أن نعتمد بشكل أكبر على المفكرين جنبا إلى جنب مع الساسة في تشكيل التوجه الذي يخدم رؤيتنا ويحفظ لنا موقعنا في المستقبل القريب.