عن آفة التسطيح والمآلات المجتمعية
يتغير عالمنا وتشتبك معطياته بطريقةٍ تستصعب الفهم - ولكنها لا تستعصي عليه - وفي حينه، يصبح على المجتمعات اتخاذ قرارها الفوري والمباشر؛ فإمّا أن تكون واعية ومدركة لتلك المتغيرات ومواكبة لها بحصافة، وإمّا أن تكون متلقية لارتداداتها وعواقبها وانعكاساتها، وأن تكيف نسيجها في الدخل من أجل المتغير، لا من أجل التغير. وهي في مجملها رهانات صعبة. تستدعي مجتمعًا يتعامل بصفة نقدية مع المعارف والمواقف، ودول تسخر أجهزتها وطاقاتها لمواكبة تلك المعارف والمواقف بشكل سريع وذكي واستباقي. شهدنا في الأيام الفائتة التعطل العالمي الذي أصاب أجهزة الكمبيوتر، بسبب عملية تحديث (CrowdStrike) التي قامت بها شركة «مايكروسوفت» والتي كانت تحمل خطأ تقنيًا، وكيف تمكن هذا الخطأ المركزي من شل حركة العالم، فعطّل آلية العمل في الكثير من مطارات العالم، وأنظمته المصرفية والصحية، عوضًا عن المؤسسات التي تعتمد ذات نظام التشغيل في شرق العالم وغربه، مما خلق (لحظة عالمية A global moment) غير مسبوقة تاريخيًا. من قبل هذا الحدث شهد العالم أعطالًا متباينة؛ إما في منصات أو تطبيقات أو شبكات؛ وتباينت قدرة تلك الأعطال في التأثير على المشهد العالمي. ويستحضر هذا الحدث لدى البعض ما كتبه المنتدى الاقتصادي العالمي عن مفهوم «الجائحة السيبرانية cyber pandemic» في عام 2021، ودعوته إلى ضرورة حماية البنى الأساسية الحيوية من مخاطر الهجمات السيبرانية، وتحديدًا بعد اختراق خط أنابيب كولونيال في الولايات المتحدة، وما تلاه لاحقًا من هجمات متباينة على شبكات الكهرباء وبعض النظم الصحية ونظم عمل البنوك والمصارف. توقفنا هذه الأحداث على ثلاث دلالات مهمة؛ أولها أن العالم بنظمه يميل إلى الاشتباك ثانية بثانية؛ وإذا كانت العولمة في مفهومها الواسع تعني إلغاء الحدود الجغرافية والسياسية للسلع والخدمات والأفكار؛ فإن ما نعيشه اليوم يمكن أن نسميه (عصر التشابك العالمي The era of global connectivity). فإذا كانت العولمة تشكل عصرًا استكشافيًا للعالم، فإن ما نعيشه اليوم هو عصر نشتبك فيه بإرادتنا وبدون إرادتنا بكل المعطيات التي تؤطر حياتنا، من معاملاتنا المالية، إلى الصحية والاستهلاكية، وقد نصل إلى وقت تكون فيه بصمتنا الكربونية مشتبكة إلى حد بعيد بأحداث ووقائع في آنها، تحصل على الطرف الآخر من العالم. أما الدلالة الثانية؛ فإنه لا نجاة من هذا الاشتباك، وهو يفرض علينا توقع اللامتوقع. أما الدلالة الثالثة؛ فإن هذا الاشتباك يفجر المعرفة العالمية ويضاعفها ويسيطر عليها في الآن ذاته.
إذن في المقابل هناك ثلاث قواعد يتوجب على المجتمعات أن تنهجها في سبيل التكيف مع هذا الاشتباك، أولها افتراض غير المفترض، وثانيها العمل والتعامل مع الغامض وغير المدرك، وثالثها الاستخدام الجاد للمعرفة الناتجة وعدم التعامل بالتسطيح. والواقع أن التسطيح أصبح آفة مجتمعاتنا المعاصرة. فإذا أردنا تصنيف المجتمعات في تعاملها مع حالة الاشتباك العالمي هذه، فيمكن أن نضعها على النحو التالي:
- مجتمعات منتجة للوقائع العالمية وموجهة لها.
- مجتمعات منتجة للوقائع العالمية ومسيطرة عليها.
- مجتمعات مستهلكة للوقائع العالمية ومستفيدة منها.
- مجتمعات مستهلكة للوقائع العالمية ومسطحة لها.
والانتقال إلى الحالتين الأولى والثانية يقتضي جهدًا تآزريًا، يقوده تغيير العقلية الاجتماعية السائدة، وتمكين مؤسسات المعرفة، وتعزيز الفعل الثقافي، وتطوير الفعل الإنتاجي والابتكاري، واعتبار المعرفة القيمة الأعلى التي تتمحور حولها العمليات داخل المجتمع والدولة. ولكن قطاعًا واسعًا من هذا الفعل داهمه التسطيح في أغلب جوانبه، فأصبحت عبارات من قبيل «المجتمع يريد التبسيط، المجتمع يتقبل من يقدم له الشيء الموجز، الإعلام لا يحتمل المادة المعرفية العميقة، الفرد يريد الشيء المختصر...» مسيطرة على مختلف تعاملاتنا؛ تعاملاتنا مع حالة التعلم، وتلقي الأخبار والأحداث، ومحاولة فهم الوقائع التي تدور حولنا، والمواد الإعلامية وسواها. وكأن تلك أصبحت قواعد تسير حياتنا وتسيطر عليها، دون أن نتساءل من الذي أنتج تلك القواعد؟ ومن الذي فرضها وشرعنها، ومن الذي أحقَّ وجوبها في العقلية الاجتماعية؟ فوسط حالة التسطيح تتسرب الكثير من المعارف غير المدركة، والجوانب التي يتوجب التعمق بها لنفهم مسار حياتنا، ومسار دولنا ومجتمعاتنا. فمن تلك المعرفة المتسربة قد نتصور واقعًا غير واقعنا، وقد نتوهم بفرضيات لا محل لها من الصحة، وقد نصدم بما هو غير متوقع وما هو غير مفترض.
إن الانتقال إلى حالة الفاعلية العالمية يقتضي جهدًا نوعيًا في مساءلة عمق المعرفة المتلقاة في مؤسسات التعليم، وفي الدور التنويري الذي تقوم به الجامعات، وفي جدية الفعل الثقافي والمعرفي للمؤسسات الثقافية، وفي مستوى العمق في التناول والطرح الذي تتبناه وسائل الإعلام، وفي وسائل التهيئة لتلقي المعرفة التي تضعها الأسر لأبنائها، وفي حالة المحتوى المعرفي الجاد والرصين الذي نسهم بنشره عبر المنصات والشبكات الإلكترونية، وفي الدافعية للمعرفة الجادة التي تشجع عليها مختلف أنواع الخطاب، سواء كانت خطابا دينيا أو سياسيا أو ثقافيا. كل هذا يجب أن يوجه لمحاربة آفة التسطيح التي غزت مجتمعاتنا وأصبحت تسيرها وفق منطق (المجتزئ والمبتور والخطوط العريضة). أن نفهم بعمق يعني أن نكون أكثر قدرة على المواكبة، وأن نتلقى ونسهم في صنع المعرفة الجادة وتعميمها يعني أن نقلل من مستويات الغموض التي تحيط الظاهرة العالمية، وأن نشجع على مواجهة التسطيح يعني أن يكون لدينا المخزون المعرفي للتكيف مع جالة الاشتباك العالمي. فإذا لم نسابق إلى مضمار ذلك سُبقنا. هذه اللحظة هي التي لا يجب أن تبقى فيها مؤسساتنا الأكاديمية «مصنعًا للشهادات» - حسب تعبير آلان دونو - ولا أن تبقى مؤسساتنا الإعلامية مجرد منصات للعاجل والأخبار والمقتطفات ولا أن تبقى مؤسساتنا الثقافية جزرًا معزولة عن فعل المجتمع وسيرورته. إنه زمن العودة إلى العمق ومواجهة التسطيح.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان