محمد البساطي.. فلاح في ملابس أفندي!
مع مطلع الألفية الجديدة كان الكاتب المصري محمد البساطي، المولود عام 1937، قد تجاوز الستين من عمره، إلا أن إمارات الصحة بدت واضحة على جسده، واحتفظ بوسامة الشباب، بأنفه المستقيم، وعينيه الواسعتين، وإن كان اللون الرمادي قد صبغ شعره المصفَّف بعناية دوما. بدا واضحا لي أن هناك وجه شبه كبيرًا بينه وبين الأديب البيروفي ماريو بارجاس يوسا. قلت له ذلك في إحدى مكالماتنا المنتظمة أيام الجمعة من كل أسبوع، فضحك، وسألني بسخريته المعهودة: «وسيم زيي؟! والله ممكن!».
المدهش أن المقارنات عادت لتجمعه ببارجاس يوسا في ميدان الأدب، فقد رأى بعض أصدقائه أنه استلهم رواية يوسا الشهيرة «مديح الخالة» في روايته «فردوس»، التي سلمها للناشر بعنوان «الخالة فردوس». أصر الأصدقاء على أن عنوان روايته يتشابه للغاية مع عنوان يوسا، وحذروه من التمسك به، وفي لحظة شك نادرة، قبِلَ البساطي نصيحتهم وحذف كلمة «الخالة» من العنوان، لكن هذا لم يكن كافيا لإسكات الحياة الثقافية التي بدأت تقارن أيضا بين روايته «جوع» ورواية الكاتب النرويجي كنوت هامسون «الجوع». وقد علت الثرثرة وبلغت أشدَّها حين وصلت رواية البساطي إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في عامها الثاني.
وقتها لم يكن السرطان قد تمكَّن منه بعد، فبدا كأنه سيعيش أبدا، وحافظ على خروجه من البيت مرة أو اثنتين في الأسبوع ليقابل أصدقاء عمره في مطعم «الجريون» أو على مقهى «الندوة الثقافية» أو مقهى «سوق الحميدية» بوسط البلد، ومنهم الرسَّام جودة خليفة، والكتَّاب إبراهيم أصلان وبهاء طاهر وعزت القمحاوي والناقد محمد بدوي والشاعر إبراهيم داود. كان يبدو لأي شخصٍ غريبٍ مثل «باشا» أو «أفندي»، بملابسه اللامعة وشعره الأبيض وعينيه الحادتين، لكن بمجرد أن يتحدث تسقط عنه الهالة الخارجية، لأنه يتحدث كفلاح. كان لا يزال محتفظا بلكنة قريته «الجمالية» المطلَّة على بحيرة المنزلة، في دلتا مصر، كأن تلك السنوات التي قضاها في الوظيفة ومع أفندية القاهرة ومع القراءات العربية والمحلية والأسفار الخارجية لم تستطع أن تنهي تماما شخصية الفلاح داخله. حكى البساطي مرارا أن أمه أرسلته إلى القاهرة صبيا ليكمل تعليمه بها، بعد أن يئست تماما من شغبه، ومن مغامراته التي لا تنتهي في المدارس والقرى المجاورة، وقفزه على سطوح الجيران، ومشاغباته للناس. جاء البساطي إلى القاهرة بعد أن انطبع الريف والنيل في روحه، إذ كان يزرع مع الفلاحين، ويصطاد مع الصيادين، واستمرت رائحة الحنين تُعيده إلى فترة الطفولة والصبا في معظم أعماله بدءا من «الكبار والصغار» و«حديث من الطابق الثالث»، و«التاجر والنقاش» و«أحلام رجال قصار العمر» و«هذا ما كان» و«منحنى النهر» و«ضوء ضعيف لا يكشف شيئا» و«ساعة مغرب» و«المقهى الزجاجي» و«الأيام الصعبة» و«بيوت وراء الأشجار» و«صخب البحيرة» و«أصوات الليل» و«ويأتي القطار» و«فردوس» و«جوع».
حمت الوظيفة البساطي، مثل أستاذه نجيب محفوظ، من مشقَّة الحياة، ومن الصعوبات التي واجهها أنداده كتَّاب جيل الستينات، يكفي أن أذكر أن خيري شلبي مثلا عمل في الفِلاحة، كما عمل نجارا وحدادا ومكوجيا وترزيا، وبائعا سرِّيحا يقفز من أتوبيس إلى أتوبيس، أما البساطي فقد جنَّبه التعليمُ العالي هذه الويلات، إذ نال بكالوريوس التجارة عام 1960، ثم عمل مديرا عاما بالجهاز المركزي للمحاسبات، وتدرَّج في الوظيفة حتى أصبح مفتشا كبيرا، تُفتح له أبواب مؤسسات الدولة، وعلى رأسها السجون، فدخلها بكبرياء، مفتشا في السجلات المالية، مثيرا الرعب في قلوب مأموريها، بينما كان معظم أبناء جيله نزلاء بها في الستينيات والسبعينيات، يسومهم الجلادون أنواع العذاب.
داخل تلك السجون لم يكتف البساطي بالعمل الرتيب، والبحث عن الهفوات في الأوراق فقط، وإنما كان يراقب الجميع، ويرى العلاقة بين الحرَّاس والسجناء، وطبيعة اللغة المتداولة داخل المكان الكئيب، وكان يطلب من الحراس أن يقضي بعض الوقت مع السجناء، فيستجيبون له مكرهين، خوفا من تقاريره السلبية، فيستمع إلى حكايات مؤلمة لسجناء من كافة الطبقات منذ نشأتهم وحتى دخول السجن، وقرر أن يكتب عنهم رواية بعنوان «أسوار». حكى لي في حوار أجريته معه منذ سنوات بعيدة قائلا: «سمعت حكاية غريبة، تخص إدارات بعض السجون، وهي أنها تُخرِج مساجين عتاة من السجن حتى يبطشوا بأشخاص معينين في المجتمع، أشخاص ليسوا على هوى الكبار. ومن هذه الحكاية شعرت أنني أريد الكتابة عن السجن، واستدعيت من الذاكرة ليمان أبو زعبل، لأنه أكثر السجون نظافة إذا نظرت إليه من واجهته الخارجية، كما أن بوابته تفاجئك بأحواض زهور رائعة كأنها ستنقلك إلى الجنة، لكن حين تتخطاها تجد نفسك مباشرة في مواجهة زرائب ترفض الحيوانات نفسها الحياة فيها. خارج السجن هناك أيضا البلوكات الخاصة بالحراس، وهي كذلك مصدر لحكايات مذهلة. لقد استمعت إلى أكثر من سجين وحارس وبدأت أكوِّن فكرة كانت نواة الرواية. كتبتُ 5 صفحات منها، ونشرتها كقصة قصيرة على لسان مسجون، لكني وجدتها تنحرف إلى سكة لا أرغبها، ورأيت أنه من الأنسب كتابتها على لسان حارس، كما ظهر في الرواية بشكلها النهائي».
حصر البساطي نفسه خلال الفترة الأخيرة من حياته في عالم صغير جدا، هو مجموعة أصدقائه وكتبه وقراءاته. لم يكن منشغلا بجوائز، وإن بدا سعيدا للغاية حين حصل على جائزة سلطان العويس عام 2001 مناصفة مع السوري زكريا تامر. كان يرفض التقديم أو الترشح لجوائز الدولة في فترة الرئيس حسني مبارك، فقد اعتبر نفسه من الرافضين لسياساته، وحدث أن حصل بهاء طاهر على جائزة «مبارك»، فغضب البساطي جدا، وهاتفه، وطلب منه ألا يقبلها، لكن بهاء المعروف بميله إلى الدولة تجاهل الطلب، على أمل أن ينسى البساطي، لكنه لم ينس أبدا، واستمر الخلاف بينهما حتى رحل البساطي أولا في عام 2012، وتبعه بهاء طاهر في عام 2022.
كان طابع بهاء الحكمة والرصانة والهدوء وعدم تحميل الأمور أكبر مما تحتمل، وكان البساطي شخصا ساخرا، لا يتوقف عن اختراع مواقف غير حقيقية ويجعل أصدقاءه أبطالا لهذه الحكايات، لكن الشخص الذي يسعى إلى الضحك كان يتحول إلى آخر غاضب وعنيف إذا مسَّ أحدهم فكرة أو عقيدة أو رؤية له. لم يقبل أبدا المناقشة العقلانية، وكان حادا للغاية ويتعامل بمنطق الأبيض والأسود وإما أن تكون معي أو تكون عليَّ، وربما كانت آراؤه في كثير من المبدعين مبنية على رأيه في مواقفهم السياسية، أي أن الكاتب يصبح جيدا إذا كان موقفه السياسي مشابها لموقف البساطي، والعكس صحيح. كنت أقول له ذلك فكان يسخر من رأيي ضاحكا.
ظل البساطي قويا حتى تمكَّن السرطانُ من كبده، وهاجمه بضراوة. غلبه مرة إلا أن السرطان التفَّ عليه وعاد كالوحش الكاسر، ليهاجمه وينهكهه ويحوله إلى رجل طاعن في السن، لا يقوى على السير بمفرده، ويمد يده للآخرين متوكئا عليهم إذا غلبه الحنين وقرر النزول إلى الشارع. عاش البساطي بوجهٍ واحد، لم يتلون ولم يقبل بأنصاف الحلول ولم يتخل عن مبادئه أبدا تحت أي ظرف من الظروف.