على هامش الحديث عن قضية الباحثين عن عمل

09 يونيو 2024
09 يونيو 2024

أحد أصعب الملفات التي تعالجها الحكومة في سلطنة عُمان اليوم هو ملف «الباحثين عن عمل»، وهو ملف معقد جدا يُرجِع البعض تعقيده إلى الجانب الإداري، فيما يُرجعه آخرون إلى الجانب الاقتصادي على اعتبار أن دوران الاقتصاد في أي بلد من شأنه أن يدير حركة التوظيف بشكل مباشر أو غير مباشر، بل إن دوران قطاع من قطاعات الاقتصاد كفيل بأن يدير إلى جواره قطاعات أخرى تكون مساندة له ولعملياته الإنتاجية.. وهذه الحركة وتلك تنتج وظائف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

لكن الأمر من وجهة نظري، أكثر تعقيدا من ذلك؛ فمشكلة الباحثين عن عمل لها تبعات تعود إلى بناء النظام الاقتصادي في أي بلد، وإلى ثقافة الإنتاج، وإلى الجوانب التعليمية التي تُخرج مُخرجات لا تملك في بعض الأحيان الحد الأدنى المطلوب لشغل الوظائف، إضافة إلى الجانبَين الثقافي والاجتماعي في بناء شخصية الباحث عن عمل.. وكذلك إلى الجانب التاريخي في التعامل مع هذا الملف خلال السنوات الماضية. وكلها عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في وصول ملف الباحثين عن عمل إلى ما وصل إليه اليوم، رغم أنه شهد بعض الحلحلة خلال العامين الماضيين.

يعتقد البعض أن الاقتصاد في سلطنة عُمان غير منتج لفرص العمل الجديدة، أو فرص عمل تتناسب مع المخرجات التعليمية، وهذا رأي يحتاج إلى كثير من النقاش والتدقيق خاصة عندما يقرأ في حضور الأرقام والإحصائيات؛ حيث يبلغ عدد الوافدين الذين يعملون في مختلف القطاعات في سلطنة عمان بنهاية العام الماضي 1.8 مليون عامل، 42.4 ألف منهم في القطاع الحكومي، و1.4 مليون في القطاع الخاص، و334 ألفا في القطاع العائلي.

لا أريد أن أناقش المؤثرات الثقافية والاجتماعية في بناء توجهات الباحثين عن عمل، وفي الحقيقة لست مؤهلا لذلك قطعا، ولذلك يمكن أن أستثني مباشرة 483 ألف فرصة عمل يشغلها وافدون في قطاع التشييد وهو أحد أصعب القطاعات وأقلها أجرا، مع الأسف الشديد، ومن غير المتوقع أن يشهد إقبالا من العمانيين خلال السنوات القريبة القادمة.. ولكن سأتساءل عن 181 ألف فرصة عمل في قطاع الصناعات التحويلية يشغلها وافدون بنهاية العام الماضي وفق إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، و128 ألف وظيفة في أنشطة الإقامة والخدمات الغذائية، و119 ألف وظيفة في أنشطة الخدمات الإدارية والدعم، و79 ألف وظيفة في قطاع النقل والتخزين. وهذه القطاعات تشكّل مجتمعة 507 آلاف فرصة عمل وجميعها مشغولة من قبل وافدين في لحظة كتابة هذا المقال. يمكن هنا أن نطرح سؤالا آخر حول لماذا لم تُشغل هذه الوظائف/ الأعمال من قبل عمانيين باحثين عن عمل؟ هل يعود السبب إلى عدم ملاءمتهم للعمل من حيث المهارات والدراسة التخصصية التي تحتاجها تلك الوظائف؟ أم لأن العائد المادي لهذه الوظائف غير مجد في ظل متطلبات الحياة التي ترتفع كل يوم؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟! لا أملك إجابة قطعية على هذا السؤال وإن كنت أعتقد أن كل تلك الأسباب، وأسبابا أخرى، ساهمت مجتمعة في بناء مشهد غياب الباحثين عن عمل العمانيين عن شغل بعض هذه الفرص الوظيفية التي يمكن أن تلبي طموحات الكثير من الباحثين عن عمل.

لكن يمكن أن نستحضر مثالا من قطاع آخر قد يساعد في إجابة السؤال السابق وفهمه. قطاع شركات النفط أحد أكثر القطاعات التي يتنافس العمانيون على شغل وظائفه رغم صعوبتها، واستوعب خلال السنوات الماضية عددا كبيرا من الباحثين عن عمل، رغم أن هذا القطاع يتطلب عملا في الصحراء وفي ظروف صعبة وبعيدا عن الأسرة ووسائل الترفيه المتوفرة في المدن والولايات ومواصلة الدوام لمدة تتجاوز أسبوعين في بعض الحالات. ومع عودة أسعار النفط والاستثمارات في هذا القطاع يفترض أن تكون التحديات التي واجهها خلال السنوات من 2015 إلى 2021 قد مرت بسلام، لكن ما زلنا نقرأ كثيرا عن عمليات تسريح جماعية للعمانيين العاملين في هذا القطاع! وهنا يمكن أن نطرح السؤال الآتي: هل يمكن أن يعمل هذا القطاع المهم والحساس دون موظفين إذا كانت عملية التسريح مستمرة؟ أم أن عملية التسريح لها هدف آخر يتمثل في إحلال موظفين جدد برواتب أقل من رواتب الموظفين المسرحين؟! الكثير من المسرحين يجاوبون بالإجابة الأخيرة على السؤال السابق؛ أي أنه بعد تسريحهم من وظائفهم يتم تعيين آخرين برواتب أقل أو تُعرض عليهم عقود عمل جديدة برواتب أقل، وهذا الأمر متكرر في الكثير من الشركات في مختلف القطاعات. هل يمكن أن يوحي لنا هذا المسار بفهم بعض التكتيكات التي تعمل عليها بعض الشركات في السنوات الأخيرة والتي رفعت نسبة الوافدين إلى 43.1% من عدد السكان خلال سنوات قليلة؟!

لا أحد يشك في مساهمة الوافدين في بناء الاقتصاد العماني خلال السنوات الماضية، وفي أهميتهم خلال المرحلة القادمة التي تفتح فيها سلطنة عمان آفاقا على الاستثمارات العالمية، لكنّ الاعتماد الكلي على العمالة الوافدة له آثار خطيرة على سوق العمل المحلي، وفي مقدمة تلك الآثار تشبّع فرص العمل التي يمكن أن تكون متاحة للباحثين العمانيين عن عمل، وسيطرتهم عليها وبناء كيانات توجه متطلبات السوق من العمالة.. إضافة إلى أسباب كثيرة قد يرقى بعضها ليكون أمنيا أو ما يمكن أن يشكل خللا واضحا في التركيبة السكانية والهُوية الوطنية، وهذا موضوع كُتب حوله الكثير وطُرحت فيه الكثير من الآراء الموافقة والمعترضة.

لكن السؤال الأهم الآن هو كيف يمكن أن نعالج هذه المشكلة في ظل تحول ملف الباحثين عن عمل إلى قضية وطنية تكبر كل يوم، وربما تتعقد كل يوم أيضا؟

إن أحد أهم طرق علاج هذه المشكلة يكمن في المقام الأول في معالجة الأجور في القطاع الخاص، فلا يمكن تقبُّل فكرة راتب شهري، حتى لمن لا يملك مؤهل الدبلوم العام، يبلغ 325 ريالا عمانيا في هذا الوقت. ولا أعرف على أي أساس تم احتساب هذا الراتب! هل على أساس المؤهل الدراسي أم على أساس قيمة العمل الذي يقدمه هذا العامل حتى يستحق في مقابله هذا الراتب، على اعتبار أن العمل في شكله النهائي خدمة وكل خدمة لها قيمة يمكن تقديرها! وفي جميع الأحوال هو راتب لا يلبي أدنى متطلبات الحياة، دع عنك فكرة أنه يمكن أن يساهم في تنشيط الحركة التجارية على اعتبار أن جميع الرواتب تدور في فلك الاقتصاد شهريا ولا يتم ادخار شيء منها.. وهو راتب في الغالب لا ينمو حتى وفق معدل متوسط نمو الأجور في سلطنة عمان.

وفي ظني، وكثير من الظن يقين، أن إصلاح موضوع الرواتب في القطاع الخاص ووضع تشريعات حاكمة فيما يتعلق بتسريح الموظفين من أعمالهم، وتطبيقها بصرامة، من شأن كل ذلك أن يجعل القطاع الخاص قبلة مهمة للباحثين عن عمل.. وخير دليل على ذلك الشركات الحكومية التي يبحث، حتى الموظفون الحكوميون، على فرص عمل فيها نتيجة الحوافز التي تقدمها لموظفيها ونسبة الأمان الوظيفي فيها.

والتشريعات مهمة جدا خاصة أن تجربة جائحة «كوفيد19» أفقدت الناس ثقتهم في استدامة وظائف القطاع الخاص وحتى تعود تلك الثقة يحتاج الأمر إلى جهد كبير.

ثم إن هناك مشكلة المهارات التي تشكل عائقا يتحدث عنه أصحاب العمل كثيرا، وهو في الحقيقة مشكلة موجودة حتى في القطاع الحكومي وتحاول الدولة بكل مؤسساتها تجاوزها عبر التأهيل والتدريب على رأس العمل، وما زالت تلقى الكثير من التحديات. والأمر يحتاج إلى دراسة معمقة وفي مسارات مختلفة.

أمام هذه المشكلة/ الحقيقة، يمكن للحكومة أن تتبنّى، بالتعاون مع القطاع الخاص، برامج تأهيل مكثفة ونموذجية تكون مقرونة بالتوظيف، بحيث تلتحق مخرجاتها بالوظائف الجديدة التي تريدها الشركات أو تحل محل عمالة موجودة مسبقا دون عقبات أو تدخلات. لكن هذا الأمر يحتاج إلى ضبط عمليات التأهيل لتكون حقيقية ولا تهدف إلى إثراء بعض المعاهد التي تنشأ خصيصا لتأهيل كوادر مؤسسة بعينها كما حدث في مراحل مختلفة سابقة!

ومن الحلول المهمة أيضا لعلاج تراكم أعداد الباحثين عن عمل تشجيع ريادة الأعمال. ويمكن أن تستفيد سلطنة عمان من النموذج الأمريكي الذي يقدم العديد من الحوافز للشركات الناشئة، بما في ذلك المزايا الضريبية والحصول على التمويل والدعم في الأفكار وفي جميع مسارات المشروع. أو يمكن في هذا الجانب أيضا أن تدخل الحكومة شريكا في الشركات الناشئة وعندما تقف على أرجلها، كما يقال، تقوم بالتخارج من هذه الشركات.. وهذا الخيار هو الأمثل في دعم الشركات المتوسطة والصغيرة، والذي يقوم عليه النموذج الأمريكي.

هل تحل المشكلة بهذه البساطة؟.. قطعا لا، والأفكار كثيرة جدا ولكن هذا حجر صغير في بركة واسعة جدا ودوائرها تستوعب الكثير من المشاهد والصور.

عاصم بن سالم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان