العيد.. من حيز القرى إلى فضاء النيوميديا!
كيف يمكن للمجتمعات أن ترسم صورة فريدة لها في وسائل التواصل الاجتماعي؟ كيف يمكنها أن تُقدم نموذجها المُغاير في وقت تُحاول فيه العولمة صهرنا جميعا في وعاء واحد ينفي دقة تمايزنا وتعدد خبراتنا؟
هذه الوسائط الحديثة التي كثيرا ما نرجمها باعتبارها المدمر الأساسي لقيم السعادة والرضا ونصفها بالمشوه للحياة الطبيعية، نكتشفُ أيضا إمكانياتها المختزنة التي تُرينا جانبا آخر من القصّة المفقودة كما حدث هذا العيد وأعياد سابقة -بدرجة أقل- ففي صورة لافتة شاهدنا لهب التنور العُماني المشتعل على الطريقة التقليدية، مُحاطا بسواعد الفتية والشباب برفقة شوالات اللحم الجاهزة والمُعلّمَة بعلامات يُدركها أصحابها بدقة، تُلقى -العشرات منها- دون أن تساورهم مشاعر الخشية من أن تضيع أو أن تختلط بغيرها رغم أنّ النار تُصيرها إلى شيء واحد!
هكذا خرج التنور العُماني من حيز القرى الضيق إلى فضاء السوشال ميديا، ليحصد مشاهدات مرتفعة في صور والتقاطات فاتنة، لا سيما تصوير الدرون الذي أرانا لوحة علوية لصلاة العيد، لتصافح الجيران والأصدقاء وهم يمضون بين كثافة نخيلهم وتفاصيل بيوتهم وأفلاجهم. الالتقاطات العذبة والعفوية لروح البساطة المُنعكسة في هبطات العيد، وعرصات البيع والمساومة على أسعار المواشي.
لم يكن التنور وحسب هو اللافت في اصطياد تفاصيل العيد، فقد أطلقت القرى العُمانية مدافع عيدها، وخرجت الأزياء بألوانها الحارة ونقوشها الآسرة لتمنح العيد رونقه الفاتن، كما خرجت الفنون الشعبية من محدودية أدوارها الفلكلورية لتملأ امتداد حيزها المكاني، خارج المكان، لتغدو فجأة متاحة بين أيدي العالم المتعطش لشيء فريد وخاص كهذا، يغتني من ذاته فلا يُشبه شيئا، وإن تقاطع مع ثقافات أخرى بالضرورة.
ونحنُ صغار راهنا بأنّ قُرانا ستُهجر لأنّنا عندما سنذهب إلى الدراسة والعمل في مسقط لن نعود. ظننا بأنّ الشباب لن يُعمروا بيوتا في قراهم، لأنّهم سيشتبكون بمغريات المدينة التي تنمو على خجل. راهنا على أنّ موت الأجداد سيعني انقطاع الشعرة الأخيرة التي تصل بيننا وبين امتدادنا الأولي، لكن المفارقة أننا في كل عيد نعود فيه إلى أماكننا الأولى نكتشف بأنّهم لا يغادرون بل يُعمرون القرى، يتجذرون في ترابهم ببناء بيت أو بشراء أرض. لقد كانت إحدى مفاجآت هذا العام أن يُفتتح مقهى عصري في قريتي الجبلية «الحيلين» البعيدة والمُحاطة بالجبال من كل اتجاه، وقد لاقى إقبالا منقطع النظير.
ولذا نرى في الأعياد وجها آخر لقرانا قد لا نراه في الأيام العادية، فالتجذر لا ينتهي بتحقق العودة، بل عند تأكيد تمسكنا بالماضي الذي سلّمته أجيال لأجيال بعدها. إذ بقدر ما ظننا استحالة عودة الطيور إلى مرابعها الأولى، بقدر ما كان تصورنا لاشتباك الأجيال الجديدة مع العادات والتقاليد أمر أكثر استحالة أمام ما توفره المدن من راحة وهناءة بال.
فخروج الأجيال الجديدة المدججة بخطابات ما بعد الحداثة لحضور فن «العزوة» أو «الرزفة» أو إطلاق المدافع، هو أمر يؤكد على أنّ بناء المستقبل قائم على التحام أصيل بهذا المحلي، وبجعل القديم ملتحما بروح العصر ورؤاه أيضا. إنّ مجرد التفكير بأن أبناء البليستيشن والتوك توك وثورة الذكاء الاصطناعي، مغرمون بالوشائج التي تُعيدهم لتمثل حياة أجدادهم -وإن بدا للبعض أنّه اتصال سطحي كامن في التقاط الصورة وحسب- إلا أنّه يسفرُ عن دلالات ذات طابع إيجابي وحيوي.
علينا ألا ننكر أنّ العيد في سلطنة عُمان لوحة من لوحات الشقاء والعمل الدؤوب طوال أيام الإجازة، جلب حطب السمر والذبح والتقطيع وشك اللحم وتجهيز التنور، بعض العوائل الكبيرة تقيم معا في بيت واحد، وتتناول وجباتها الرئيسية معا، وهي تفاصيل قد لا يعيشها الناس في دول مجاورة لنا، فما بالك بالعالم المُحمل بالفضول نحونا! فكما يحصل لنا ذلك الانشداد عندما نرى صور المجتمعات الأخرى وعاداتها وبساطة أريافها، فنحن أيضا يمكن أن نستثمر هذا الفضول بصورة تخدم السياحة وتخدم قطاع الاستثمارات الأجنبية، لا سيما وأنّنا لمسنا ذلك التنافس الخفي بين القرى لإظهار الجماليات الكامنة في تفاصيل كل واحدة منها، وهو التنافس الذي نأمل أن يستمر ويتكثف، فهذه العادات والتقاليد لا ينبغي أن تعزلنا عن العالم، بل أن تتبدى بكل مفرداتها كعامل إبهار عميق ومتجذر.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى