No Image
روضة الصائم

ابن عرابة: الخيال الجامح

23 مارس 2024
23 مارس 2024

أتذكر هنا درسنا في الصف الثالث الثانوي، حين نصل إلى قصيدة عتاب البحر، فنقف متفاعلين مع النص وخيال الشاعر، إنه ابن عرابة...

هلال بن سعيد بن ثاني بن صالح بني عرابة. ولد في بلدة العلية بولاية دماء والطائيين بشرقية عُمان، وعاش في عُمان ثم سافر إلى زنجبار كغيره طلبا للرزق والمكانة، وتوفي فيها.

تلقى تعليمه على يد عدد من المشايخ حسبما كان متبعًا في زمانه، فأخذ علوم الدين واللغة في المساجد والمجامع العلمية، وظل على ذلك حتى صار واحدًا من فقهاء عصره، وأخذ العلم على يد والده سعيد بن ثاني. فعمل قاضيًا في مدينة زنجبار، في عهد السيد سعيد بن سلطان.

له ديوان عنوانه: «جواهر السلوك في مدائح الملوك» ويتميز شعره بأمرين، الأول: سعة الخيال مع ضيق العبارة، فقد كان له خيال بديع لولا أنه ضيق العبارة، الأمر الثاني غلبة المديح، وأكثر المديح كان للسلطان سعيد بن سلطان. وعادة ما يبدأ المديح بمقدمات رائعة، ومن مدائحه:

طيورُ المَعَالي في السماءِ حَوائِمُ

وَأشْرَاكُها سمرَ القَنَا والعَزَائِمُ

وَمَنْ رَامَ نَيْلَ العِزّ لم يطوِ قَلْبَهُ

على وَجَلٍ والدارعونَ تَصَادَمُ

وفيهِ تَظَلُّ الخَيْلُ تَسْبَحُ في الدِمَا

كَسُفْنٍ عَلَتْها أبْحُرٌ تتَلاطَمُ

يطولُ كما طالَ ابنُ سلطان باعَهُ

ويقصر عنه من على الحرب قادم

سعيدٌ على أملاكِهِ العَدْلُ مُنْشَرٌ

وأملاكُ أعداه عليها المظَالِمُ

ترى الخيلَ والأسادَ تحتَ لوائِهِ

عليها من الفَتْحِ المُبينِ عَلائِمُ

تُجَاذِبُهم تحتَ الأعنةِ والقَنَا

رماك المذاكي والذُكورُ الصَوَارِمُ

ويَقْدَمَهُم كالبَحْرِ إذ هُوَ مُزْبِدٌ

وَسُحْبٌ يَدَاهُ بالنُّضَارِ سَوَاجِمُ

وهو في مدحه له -كما يقول الدكتور داؤد سلّوم محقق الديوان «يؤكد على ثلاث قيم بدوية حميدة مقبولة اتخذها مقياسا من مقاييس الرجولة الحقة وهي: الشجاعة والكرم والمنزلة الاجتماعية والهيبة والعلم والوقار ويدخل كل ذلك في باب الأوصاف النفسية التي تصف الممدوح من الداخل.

فيأخذنا إلى معارك السلطان سعيد مصورا بسالته، فهذه هي صورة الخيول التي يقودها إلى المعركة والتي ترد الدم عوضا عن الماء وترعى الرماح عوضا عن العشب:

تجول به الجرد المذاكي عوابسا

وتسحب أذيال الدروع ولا تكبـو

سواغب يكفيهـا النجيع لوردها

وأما الوشيج الملـد فهي لها عشب

وهذا هو الممدوح العابس الضاحك في المعركة وهو يمارس زرع رماحة في رقاب الأعداء:

عبوس لدى الإقدام في معرك الردى

ضحوك إذا الأعداء حالت عتاتها

وتركع في لب الأعادي رماحه

وبتراء طالت بالطلي سجداتها

وتأمل هذه الصورة البارعة المتحركة:

حسامك برق والقتام سحائب

وخيلك سفن والدما زاخرا بحر

تجر ضلوع الهام عند رقابها

بضرب ثوى من وقعه الجندل الصخر

صورة الكرم فهي صورة أخرى ومن ذلك قوله في ممدوحه:

لولاه ما عرف الجدوى ولا ذكرت

بالجود طي ولا بالفخر قحطان

ولو زهير بهـذا العصر ما مدحت

بنظم أشعاره عبس وذبيـان

ويعكس الشاعر في الصورة الثالثة منزلة الممدوح وعلمه وفضله وخصائصه الإنسانية والاجتماعية فيقول:

قد حدثتني المعالي أن ذا ملك

أفعاله شهـرت في سالف الحقب

فالسيف والخيل تروى عن معاركه

وأشهرت علمه لي أصدق الكتـب

وهذا هو ممدوحه في خصائصه النفسية كما صوره في حلمه وعقله ووفائه وزكاء أصله وقدره وتواضعه وحيائه وكرمه

وأثقل من رضوى وأعقل من سعى

بنعل وأوفـــــــاهم ذماما وموعدا

وأزكـــــــاهم أصلا وأسماهم عـــلا

وأرفعهـم قدرا جليلا وأمجـدا

وأصغرهم نفسا وأكبرهم صجا

وأقصرهم طرفا وأطولهم يدا

وهذه الصورة المركزة قد جمعت ما تقوله قصيدة كاملة.

وتبدو «العلاقة الحميدة بين المادح والممدوح من العمق والشدة بحيث نجد فيها الصدق والديمومة والمحبة فهو لا ينسى ممدوحه وهو بعيد عن الوطن، فيراسله ويمدحه ويعاتبه. فجمعت بينهما المحبة والألفة أكثر مما جمعت بينهما المصلحة أو المنفعة، فالضخ العاطفي والدفع الفني في قصائد مدحه يغلب عليه طابع الحماسة والصدق وهذا لا يتوفر دائما في شعر المدح العربي». كما يقول الدكتور داؤد سلّوم.

**

كما كتب ابن عرابة في الغزل مقتفيًا أثر أسلافه لغة وخيالا، وترك ما يقرب من ثلاث وثلاثين مقطوعة وهو لم يطل في غزله كما أطال في مدحه فإن أطول قصائده في المدح وصلت إلى تسعة وثلاثين بيتا، أما أطول قصائده في الغزل فقد وصلت إلى ثمانية عشر بيتا، غير أن أجمل غزلياته هي المقدمات الغزلية في المدح في رسم الصورة المثلى لموضوعه. والتي تميزت بأمرين أولهما الجمال في رسم الصورة والثانية حسن التخلّص إلى المدح، يقول داؤد سلوم: «في مقدماته الغزلية كان يستخدم الخروج التقليدي وبشكل مناسب للانتقال إلى المدح، فأما الوداع والسفر اللذان يقودان إلى الخروج إلى الممدوح وأما المطر والغيث فيشبهان ندى الممدوح وهو دائما يـجد ما يناسب للخروج من الغزل إلى المدح وهذا نموذج من خروجه:

وللــبين أسياف حداد يهزهـــــــا

ويظهـر من صـيحاته النعق والنعـب

فودعته والأرحبية سيرها

جثيث وتمضـي في أزمتها تحبو

لها طرب في مشـيها وبشاشة

إلى ملك تعنو له السادة النجب

إن الشاعر يحب ويتغزل ويعاني ويقاسي الحب ولكنه يؤكد عفته أبدا ويؤكد هذه العفة في أكثر من مقام فيقول:

علـيّ حرام ما حواه نطاقها*عليّ حلالٌ ما تضمنه الثغر

وقال أيضا:

باتت على مجلس التقوى تصافحني* كما تصافح حرف اللام والألف

والصورة المثلى لمن يتغزل بها صورة مركبة من خصائص الأنثى المثالية: فمن صفاتها اللين وعبل الساعدين والقامة الهيفاء والألحاظ الجميلة وطيب الرضاب واسوداد الشعر وبياض الوجه واحمراره:

علـى طفلة عبلا السواعد بضة

وتقتــل آساد الوغى لحظاتها

وتخجل خوط البان ميلة قدها

وتفضح ألحــاظ الظبـا لفتاتها

يفوق على طعم السلاف رضابها

وتـزري بـورد أحمر وجناتها

ومن عجب أن الرياض بخدها

(عذار) وتبــدي اذفرا نفحاتها

تجلت وليل الشعر يكتم نورها

ومن شمس خديها انجلت ظلماتها

**

أما ألطف وأجمل شعر الوصف، ففي قصيدته المكونة من مقطوعتين نظمها في البحر وتمثل نموذجا جيدا لصدق العاطفة والتجاوب مع الطبيعة وأثر البيئة البحرية في الشاعر. ففي المقطوعة الأولى يعاتب البحر الذي ارتفع ماؤه حتى أغرق بيت الشاعر الذي كان قريبا من الساحل كما يبدو، وللزيادة في التأثير فقد استخدم كنية للبحر فأسماه بأبي خالد وعاتب البحر أنه جار فكيف يخون حق الجوار وكيف يهاجمه ليلا يهدم داره ويسلبه ما يملك على الغفلة حتى كاد أن يغرقه.

ثم يخبر البحر أن نيته تجاهه لا تشبه نية البحر الذي غدر به والذي يتربص به المنون ولأن جار فلا ينوي أن يعاقبه، ويقول له لو اطلعت على ما في ضميري من حب تجاهك لعاملتني بلطف مثل معاملتي لك! ولحزنت لغربتي ويذكر له أن كل من جاوره لم يذم جواره فماله يبادله الحب بالكره، ويكيل له الغدر كيلا بعد كيل! ثم يقول: أيها البحر، سأصبر على محنتي منك وفيك. لعلي أنال أجرا.

أبا خالد ظني لتحفظ غيبتي

وقد خاب ظني خيبة إثر خيبة

تطوف بنا ليلا كمثل عدونا

وقوعست داري ثم خربت بقعتي

مرادك مني غير ما أنا ضامر

وتوكزني حتى تروم منيتي

وليس لجار أن يعاقب جاره

ولو رابه من فعله كلّ ريبةِ

ولو ترعوي ما في ضميري من الجفا

لأبديت لي لطفا وساءتك غربتي

وكم من صاحب جاورته وصحبته

لما أفترقنا ظل يذكر صحبتي

وتبعدني طورا وأقربك تارة

لعلي أنلْ أجرًا لصبري بمحنتي

لكنه بعد ذلك يضع على لسان البحر اعتذارا رقيقا حمّله كل حب البحر له وحبه للبحر وجعل هجومه زيارة، وإغراق ما أغرق سجدة عند دار الجار ويريد منه ألا يترك في قلبه غيظا وإلا فلن يكون له باللين السهل في سفره إلى الوطن من الأرض البعيدة القاصية.

أتزعم يا جاري وسُؤلي ومنيتي

بأني عدوٌ!، لا، ولكن مودتي

تقربني حتى أتيتك زائرا

لرسخ وداد لا لبعد وفرقة

أتيتُ بطف مثلُ ريح ضعيفة

محمّلة من نشر مسك مفتتِ

وقبّلت أرض الدار حين دخلتها

وأسجد فيها سجدة بعد سجدة

عليّ وقارٌ مع سكينة هيبة

ومن عبرتي تبرٌ يسيل بوجنتي

وإنّي لضيفٌ في محلك نازلٌ

لتوسعني بشرى وتدنو بقربتي

ولست براضٍ فيك قطبي ولا تدع

فؤداك جنّاحًا إلى كلِّ كربة

ويبدو أن هاتين القطعتين من الشعر الذي نظمه في إفريقيا لما تردد فيها من أثر الفرقة والغربة والأماكن القاصية. وأترك للقارئ أن يتأمل النص بنفسه.

د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارًا