ضغط الرأي العام يربك أداء النظام العربي الرسمي
من مِنَح وهدايا طوفان الأقصى الكثيرة لأمتنا أنه أسقط تماما مقولات سادت كثيرا عن الرأي العام العربي، ووضعها على الأقل في مجال شك عميق بعد أن ظلت عربيا مسلَّمات مطلقة تتم صناعة قرارات سياسية داخلية وخارجية على أساسها.
أخطر هذه المقولات: إن الرأي العام العربي للشعوب العربية هو رأي عام غير مدرك وغير واع. رأي عام متقلب تجمعه عصا وتفرّقه عصا. رأي عام مستوعبة أغلبيته في الحصول على لقمة العيش، وتعيش أيامها وهي تدور معصوبة العينين دوران الثور في ساقية لا تنتهي.
أما القسم الأصغر الواعي فنُظر إليه على أنه حيّز اجتماعي محدود يمكن استيعابه بمزايا وامتيازات تُبقيه في حظيرة «الأخ الأكبر» باستعارة من تعبيرات جورج أورويل الشهيرة.
في حرب طوفان الأقصى تهاوت أو تراجعت هذه المقولات تحت دفقة الكرامة والشعور بالعزة والنصر التي ضخها هجوم طوفان الأقصى في شرايين أمة تصوَّرت أنها قد ماتت وشبعت موتًا.
أوقد النصر الذي كشف هشاشة الجيش الذي لا يُقهر وانكشاف أمنه وأمن مستوطنيه، شعلة حماس وانحيازا مطلقا للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني لدى الرأي العام العربي، القضية التي ربما كان قد ذبل وهجها لكنها لم تنطفئ أبدا في قلوب العرب جيلا بعد جيل.
ثم تكفَّل العدوان الإسرائيلي الهمجي والمذابح والإبادة العرقية ومشروع التجويع والتهجير القسري في غزة الذي لم تعرفه حرب معاصرة قتلا وتدميرا، بتحويل هذه الشعلة إلى جمرة نار ونور.
الانحياز والتعاطف والاندماج والاستغراق الكامل للشعوب في حرب غزة دقيقة بدقيقة وضع ضغوطا هائلة على النظام العربي الرسمي مفاده أنه لا يستطيع تجاهل الرأي العام في مواقفه من الأزمة. لكنه منحه ميزتين؛ الأولى هي تصليب ظهره في أي موقف قد يتخذه ويتعارض فيه مع أمريكا وإسرائيل، والثانية هي منحه الفرصة ليكون خطاب الأزمة وقرارات الأزمة متماسكا ومتناغما يكمل بعضه بعضا harmonious And Consistent.
ولكن لأن النظام الرسمي العربي خاضع بنيويًّا للمركز الرأسمالي العالمي اقتصاديا وللهيمنة الأمريكية سياسيا وغير راغب في فك هذه الروابط أو على الأقل تخفيف ضغط قيدها القاسي الذي أدمى يديه ورجليه، فإنه لم ينظر لحضور الرأي العام الجارف كجمرة نار ونور وميزة توسع هامش حركته، نظر إليها كبرميل بارود قابل للانفجار في أي وقت. لم ينظر إليها بعين السياسة والاستراتيجيا كفرصة وميزة بل نظر لها بعين الأمن، كتهديد وتحدٍ لمصادر الشرعية المتقلقلة في عموم المنطقة.
حاولت وحدات النظام العربي الرسمي كل على حدة الجمع بين متناقضات يصعب كثيرا الجمع بينها، فسعت إلى الإبقاء على شرعيتها الداخلية وعدم معاداة الموقف الشعبي الذي لا تُحمد عقباه وقد تتمخض عنه حالة عدم استقرار سياسي داخلي.
وسعت من ناحية أخرى للاحتفاظ بكل روابط التبعية الوثيقة مع الأمريكيين وطمأنتها على أن عرشهم الشرق الأوسطي لم تهز حرب طوفان الأقصى شعرة من رأسه.
فأبقى العرب كل خيوط الأزمة حلا وتعقيدا في يد واشنطن وشاركوها خطتها في إبعاد كل طرف دولي كان يمكن أن يشكّل عنصر توازن لصالح العرب في ظل الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل.
ازدواجية سياسية وجمع بين متناقضات قادت النظام العربي الرسمي إلى واحد من أكثر أنواع الخطاب السياسي ارتباكا وتناقضا. الارتباك وعدم تجانس الخطاب والقرارات تزداد فداحة تكاليفه عندما يكون هذا الأداء في خضم أزمة معقدة تحتاج إلى وضوح الهدف الاستراتيجي.
نماذج الارتباك العربي والسير المتعرج بالتقدم خطوة والتراجع خطوات في وحدات زمنية قصيرة، أي في الأسبوع نفسه وأحيانا اليوم نفسه يمكن ملاحظة وتصنيف مستوياتها.
التناقض بين الخطاب السياسي المعلن للجمهور الذي ينطوي عادة على دعم للقضية والمقاومة وتعاطف مع غزة وبين الخطاب الذي يدور في الغرف المغلقة مع المسؤولين الغربيين. تطوع الأخيرون بكل الطرق الممكنة للقول: إن ما يُنقل عربيا في الغرف المغلقة يصل إلى حد أن إزاحة المقاومة من الطريق لا تعنيهم. ويزعم الغربيون أن كل ما يهم عديد من وحدات النظام العربي هو ألا يتضرر استقرارها السياسي الداخلي أو اقتصادها ومواردها من الحرب أما إذا استطاعت الحصول على مزايا من الأزمة وأدوارها فيها فهذا مكسب إضافي.
يبدو أن نسيان ما تحقق اليوم في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بات عادة لبعض العرب مما جعلهم يعتقدون أن بإمكانهم ممارسة اللعبة القديمة في إصدار خطاب سياسي للداخل يتماشى مع الرأي العام وإصدار خطاب سياسي مختلف تماما للخارج خاصة للغرب المهيمن.
في حرب غزة وأيامها التي تخطت الـ١٤٠ يوما ومن منتدى المنامة إلى منتدى ميونيخ أعلنت مواقف تتناقض بشدة مع المواقف المعلَنة في الداخل وتمثل تحديا للمشاعر الجارفة للرأي العام وتدميرا ذاتيا للنجاح والاستقرار المحدود الذي كانت حققته الحكومات من خطاب مجاراة الرأي العام المعلن وتفادي استفزازه بمواقف قد تبدو مواقف ملاينة لإسرائيل أو استقواء على المقاومة.
ثالثة الأثافي في ارتباك الخطاب هو هذا التنافر بين تصريحات مسؤولي البلد الواحد وكأنهم يمثلون بلدين مختلفين أحدهما عضو في الجامعة العربية والآخر عضو في حلف الأطلسي. فبينما يقول مسؤول: إن بلده قد يقبل بتطور معين في الأزمة، نجد مسؤولا آخر في الدولة نفسها يقول: إن ذلك خط أحمر لا يمكن قبوله أو التعامل معه سلميا إذا حدث. ويحتار الرأي العام ثم يغضب لأنه لا يعرف مَن يصدّق، هذا المسؤول أو ذاك؟! ومَن فيهما الذي صَدَقَ في التعبير عن الموقف الحقيقي لدائرة صنع القرار!
رابعة المصائب في الارتباك هو أن يقوم البلد الواحد بل السياسي الواحد نفسه بإعلان موقف في بداية الأزمة ثم إعلان عكسه تقريبا بعد اتضاح ما خلفته التصريحات الأولى من تراجع في شعبية الحكم داخليا وعربيا وإسلاميا. من الأمثلة تصريحات أولى لسياسيين عرب مفادها أن حماس شنت الهجوم بأوامر إيرانية ولقطع الطريق على عملية تطبيع كبرى مرتقبة.. حتى القول ومن تظن حماس نفسها لكي تبعثر أو تعيد ترتيب أوراق المنطقة وسوف تدفع ثمن ذلك غاليا!!
تراجع هؤلاء تحت الضغط الشعبي وتحذيرات الدولة العميقة وبعد نتائج استطلاعات رأي موثوقة عن تراجع في شعبية من يقف ضد المقاومة وارتفاع في شعبية من يقف معها. عاد هؤلاء للقول: إنه لن يكون هناك تطبيع دون دولة فلسطينية ولن تستأنف حوارات تطبيع ما قبل ٧ أكتوبر قبل إنهاء إسرائيل حربها على غزة.
إعلامي عربي انتقد تبنّي مؤسسته الإعلامية للسردية الأمريكية في الفترة الأولى من الحرب ثم اعتذر عن نقده ولكن اللافت أن هذه المؤسسة ومؤسسات شبيهة عدّلت خطابها الإعلامي واتجهت نسبيا لخطاب آخر يتفادى إشعال غضب جمهورها المحلي.
هذا الارتباك في التحليل الأخير كان نموذجا كارثيا لإدارة الأزمة فهو لم يحرم العالم العربي من التأثير الإيجابي قاذفا بنفسه وبيده، لا يد عمرو إلى الهامش والخطوط الجانبية.. ولكن حوّله أيضا إلى قوة تأثير سلبي وأن يعمل كروافع تأثير وضغط لصالح الخطط والأهداف الأمريكية أكثر مما يعمل لصالح قضاياه ومصالحه.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري