لا تعتمدوا على هبوط ناعم للاقتصاد العالمي

05 فبراير 2024
05 فبراير 2024

تظل التوقعات المتفق عليها بالنسبة للاقتصاد العالمي بعد انقضاء شهر من سنة 2024 متفائلة نسبيا حيث يتوقع معظم المحللين والبنوك المركزية إما هبوطا ناعما أو احتمالية عدم الهبوط على الإطلاق، وحتى زميلي نورييل روبيني، المشهور بنزعته التشاؤمية يرى أن السيناريوهات الأسوأ هي الأقل احتمالا لأنْ تتحقق.

لقد وجدت تلك التوقعات صدى لها لدى الرؤساء التنفيذيين وصنّاع السياسات الذين تحدّثت إليهم خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الشهر الماضي. إن حقيقة أن الاقتصاد العالمي لم ينزلق إلى الركود في عام 2023، على الرغم من الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة، جعلت العديد من الخبراء يشعرون بالتفاؤل بشأن التوقعات لعام 2024، وعندما طُلب منهم تبرير تفاؤلهم، أشاروا إما إلى تحسن الاقتصاد الأمريكي بشكل أفضل من المتوقع أو توقعوا أن الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يحفز زيادة الإنتاجية التي طال انتظارها، وكما لاحظ أحد وزراء المالية: «إذا لم تكن متفائلا بطبيعتك، فلا ينبغي لك أن تصبح وزيرا للمالية». يبدو أن خبراء الاقتصاد في العالم لديهم التوقعات نفسها علما أنه طبقا لتوقعات كبار الاقتصاديين في المنتدى الاقتصادي العالمي لشهر يناير 2024 فإن الغالبية توقعوا تراجعا عالميا معتدلا في عام 2024، ولكن معظمهم لم يشعروا بقلق كبير واعتبروا التباطؤ المتوقع تصحيحًا سليمًا للضغوط التضخمية الناجمة عن الطلب المفرط. وحتى تعطيل التجارة العالمية بسبب هجمات جماعة أنصار الله ضد السفن التجارية في البحر الأحمر والحروب الحالية في أوكرانيا وغزة لم تؤثر سلبا على المزاج المتفائل للمحللين وقادة الأعمال.

لقد حققت سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية مستويات قياسية، وحتى صندوق النقد الدولي المحافظ تقليديا أعاد تقييم توقعاته للنمو بشكل تصاعدي حيث وصف أحدث تقرير لآفاق الاقتصاد العالمي المخاطر التي يتعرض لها النمو العالمي بأنها «متوازنة بشكل عام»، ويمثل هذا التوصيف تراجعا كبيرا عن الطرح الحذر الذي يستخدمه صندوق النقد الدولي عادة لثني وزراء المالية عن الانخراط في عمليات إنفاق غير مستدامة. وفي عام انتخابي حاسم حيث يتوجه الناخبون في عشرات البلدان -الذين يمثلون نصف سكان العالم- إلى صناديق الاقتراع، فإن من المتوقع بالفعل أن يرتفع الإنفاق الحكومي، وفي الاقتصاد الكلي، تُعرف هذه الظاهرة باسم «دورات الميزانية السياسية» حيث يرغب الساسة الذين يتولون الحكم في تحفيز الاقتصاد لتحسين فرصهم في إعادة انتخابهم وهذا يعني قيامهم بزيادة الإنفاق العام وإدارة عجز أكبر. وعلى الرغم من الإجماع المتفائل نسبيا، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى أن المخاطر التي تهدد النمو العالمي لا تزال تميل سلبًا. بادئ ذي بدء، أنا متشكك جدًا في إعلان الحكومة الصينية بأن اقتصادها سجل نموًا بنسبة 5.2% في عام 2023.

إن أرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي تعد ومنذ فترة طويلة قضية حساسة سياسيا في الصين، وخاصة خلال العام الماضي حيث تمكّن الرئيس شي جين بينج من تعزيز حكمه الفردي وذلك من خلال إقالة العديد من كبار المسؤولين بما في ذلك وزيرا الدفاع والخارجية، ومع معاناة الاقتصاد الصيني من الانكماش وانخفاض أسعار العقارات وضعف الطلب، فإن من الواضح على نحو متزايد أن مشاكل الصين الاقتصادية هي بعيدة كل البعد عن الانتهاء وأن شي جين بينج عازم على السيطرة على السرد.

إن هذا المزيج من التباطؤ الاقتصادي المطول وانهيار القطاع العقاري قد يدفع الصين إلى حافة «العقد الضائع» على غرار ما حدث في اليابان. إن الحل الكينزي الواضح لتحرك البلاد البطيء نحو الكارثة والمتمثلة في انهيار المشاريع العقارية وديون الحكومات المحلية يتلخص في البدء بتحويلات نقدية مباشرة إلى الأسر، ولكن نظرًا لأن المستهلكين الصينيين أكثر ميلا للادخار (على النقيض من نظرائهم الأمريكيين المسرفين) ولأن الدَّين الحكومي يرتفع بسرعة بالفعل فلقد زادت احتمالية حدوث دوامة الديون والانكماش.

وفي الوقت نفسه وعلى الرغم من تجنب الركود في عام 2023، فإن من المتوقع على نطاق واسع أن يظل النمو الاقتصادي الأوروبي باهتًا هذا العام.

علاوة على ذلك فإن إصرار الدول الأوروبية على عدم الرغبة في الاستثمار في الدفاع عن نفسها يشير إلى أن عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض في عام 2025 قد تستلزم تعديلا مؤلما، علما أنه من المثير للقلق أن الزعماء الأوروبيين لا يبدو أنهم يستعدون لمثل هذا السيناريو، حتى وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا تستنزف مخزوناتهم من الذخيرة بسرعة أكبر من قدرتهم على تعويضها.

تعاني أوروبا أيضًا من الآثار الاقتصادية السلبية الناجمة عن قانون خفض التضخم الذي أقره الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي يستخدم الحوافز الضريبية لجذب الشركات الأوروبية، وعلى الرغم من أن قانون خفض التضخم يهدف ظاهريا إلى تسريع تحول الطاقة الخضراء في أمريكا، فإنه في الأساس سياسة تجارية حمائية، وربما أعطى هذا القانون للاقتصاد الأمريكي دفعة قصيرة الأمد، لكن عواقبه طويلة الأمد ربما تشبه العواقب التي ترتبت على قانون سموت-هاولي للتعرفة الجمركية لعام 1930، والذي أشعل شرارة حرب تجارية دولية وتسبب في تفاقم أزمة الكساد العظيم. ومع ذلك، فإن الحمائية التجارية التي ينتهجها بايدن تعد معتدلة مقارنة بخطة ترامب لفرض تعرفة جمركية بنسبة 10% على جميع السلع المستوردة تقريبًا، وهي خطوة قد تعيث فسادًا في النظام التجاري العالمي. إن من المفهوم أن ترغب الدول الأوروبية بفوز بايدن والذي أكد مرارًا وتكرارًا -على عكس ترامب- التزامه بكبح جماح التوسع الروسي. إن من المثير للقلق أن الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة الأمريكية يبدون غير مهتمين بخفض الإنفاق الحكومي، ناهيك عن خفض العجز، وبغض النظر عن الحزب الذي سوف يسيطر على الكونجرس بعد انتخابات نوفمبر، فإن من شبه المؤكد زيادة الإنفاق الذي يغذيه العجز، ولكن إذا ظلت أسعار الفائدة الحقيقية مرتفعة، كما يتوقع كثيرون، فقد تضطر الحكومة إلى الاختيار بين التشديد المالي الذي لا يحظى بشعبية كبيرة أو الضغط على بنك الاحتياطي الفيدرالي للسماح بموجه أخرى من التضخم. وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الهبوط الناعم، فإن الاتجاهات الأخيرة لا تقدم سببا يُذكَر للتفاؤل، وبينما يواجه العالم عاما مضطربا آخر، يتعيّن على صنّاع السياسات والمحللين أن يضعوا في اعتبارهم بأن الهبوط الناعم لا يعني شيئًا إذا كان المدرج في منطقة زلزالية.