«الثلاثي جبران».. فنانو فلسطين الأبية بضيافة دار الأوبرا السلطانية
عدنان جبران: حين نعرض عالميًا يكون المسرح فلسطيننا الحرّة، نقدم حضارتها وجذورها في كل نغمة -
سمير جبران: سنأتي إلى سلطنة عُمان نحمل أعوادنا، ووجعنا، وأملنا، وصوت درويش لنذهب بعيدا في حس إنساني -
وسام جبران: وحدة الأخوة هي انعكاس عن وحدة الشعب الفلسطيني الذي يحلم بالحرية -
من أرض فلسطين الأبية، التي أنجبت قامات أدبية وفنية عظيمة لا يغفل عنها التاريخ مهما مرّت السنون، ومهما كثُرت الصعاب والحروب والمحن، تأبى هذه الأرض إلا أن تثبت أصالتها وقوتها وصمودها على كافة الأصعدة والمجالات، ليَخرج من بطون حرائرها وعلى تربية رجالاتها مَن يحمل راية الهوية الفلسطينية على عاتقه، وينقلها للأجيال القادمة ويعرِّف بـ«فلسطين» العربية القوية أمام كل العالم.
ومن هذه الأرض المباركة خرجت فرقة «الثلاثي جبران»، كفرقة موسيقية فلسطينية، خرجت من أسرة فنية، لتقدّم للعالم معزوفاتها الشرقية على آلة العود تحديدا التي ارتبطت بهم بشكل أساسي، فمنذ عام 2003 تشكلت هذه الفرقة التي يحق لي أن أصفها بالعالمية، تشكلت من الأخوة سمير ووسام وعدنان، لتجوب العالم وفي داخلها رسالة تنشرها أينما حلت، وهي رسالة الإنسانية والبقاء والصمود.
ولِنَعْرف الفرقة الأصيلة أكثر، كان لنا مع أعضائها الأخوة الثلاثة وقفة حوارية، لنتعرّف عليهم أكثر، عن شخصهم، ونشأتهم، ورسالتهم واستضافتهم في دار الأوبرا السلطانية مسقط يومي 2 و3 فبراير، منطلقين بداية بالأسئلة مع الفنان سمير جبران:
سمير جبران:
لنبدأ بسؤال الفنان «سمير جبران»، كيف تروي لنا أولى تجاربك في آلة العود، وكم كان عمرك حينها؟
في البداية أود الإشارة إلى أن الثلاثي جبران بدأ في عام ٢٠٠٣، أما في عام ١٩٩٦ فكان صدور أول أسطوانة لي بعنوان «تقاسيم» حينها كنت عازفا منفردا، وبالنسبة للسؤال فأنا أنحدر من عائلة موسيقية غنية؛ فالوالد صانع أعواد معروف في فلسطين ومن أجيال عدة، والوالدة منشدة موشحات، وبدأت تعلّم العزف وأنا في الثامنة من العمر، على يد العديد من الأساتذة الذين كانوا يتوافدون على بيت العائلة وفي أجواء موسيقية، انعكست هذه الموهبة في المدرسة حيث بدأت الظهور على المسرح في الثانية عشرة، إلى أن حصلت على الجائزة الأولى في فلسطين بالعزف على العود في عمر ١٥ عاما، وفي سن الثامنة عشرة توجهت إلى القاهرة وأكملت دراستي في الموسيقى وحصلت على درجة الماجستير من المعهد العالي للموسيقى العربية.
لا بد أن هناك الكثير من المشجعين لك في بداية المشوار، حدثني عمن كان له الأثر الكبير الذي غرس في عقلك الخيالات؟
مرحلة القاهرة كان لها تأثير كبير؛ ففي هذه العاصمة الكبيرة والمهمة تعرّفت على العديد من الفنانين الذين كان لهم الأثر في مسيرتي، منهم المبدع بليغ حمدي وإن كان لقاءً قصيرًا، والمايسترو سليم سحاب، والفنان الكبير محمد الموجي، والدكتورة رتيبة الحفني، وتتوَّج كل هذا في تمثيلي لفلسطين ولأول مرة في مهرجان الموسيقى العربية عام ١٩٩٢ في دار الأوبرا في عزف منفرد، أما لاحقا في عام ١٩٩٦ فالتقيت الشاعر الكبير محمود درويش وبدأت مسيرة طويلة غنية بين شاعر وموسيقي إلى أن رحل عنا عام ٢٠٠٨، درويش كان له الأثر الأكبر في صقل موهبتي الفنية وتقديمي لجمهور واسع من المثقفين من خلال عشرات الأمسيات الموسيقية، وكان له الأثر الأكبر أن أرى الموسيقى تسبح في إيقاع البحر وبطريقة تصويرية.
انطلقت مع إخوتك لتشكلوا ثلاثيا فنيا وصل إلى العالمية، من البداية حتى العالمية، لخّص لنا الحكاية؟
في عام ١٩٩٦ أصدرت أسطوانتي الأولى «تقاسيم» وكانت تعد من أولى أسطوانات الموسيقى في العزف المنفرد على العود، وفي عام ٢٠٠٢ أصدرتُ الثانية بعنوان «سوء فهم»، وفي عام ٢٠٠٣ أصدرت أول أسطوانة للثنائي أنا سمير وأخي وسام بعنوان «تماس»، هذه الأسطوانة صدرت من فرنسا وكانت مهمة جدا؛ لأنها فتحت لنا الباب الكبير لتقديم مئات من الأمسيات في أوروبا لمدة عام، ومنها بدأنا التفكير في إنشاء الثلاثي وانضمام الأخ الثالث عدنان وكان هذا بداية عام ٢٠٠٤ في أسطوانة «رندنة» ومنها بدأت مسيرة الثلاثي جبران تجول في جميع أنحاء العالم.
في هذه المسيرة قدمنا أمسيات في أهم صالات الموسيقى في العالم، أوليمبيا باريس، كارنيجي هول نيويورك، وفي كل العواصم العربية ودور الأوبرا الغربية أيضا، كما رافقنا الشاعر محمود درويش في أمسيات عديدة ومهمة في العالم الغربي والعربي وفلسطين، كان لنا باع كبير في تأليف الموسيقى التصويرية لأفلام عديدة، وحصلنا على جائزة المهر العربي عن أفضل موسيقى تصويرية مرتين في مهرجان دبي السينمائي، وكان لنا العديد من التعاون الفني مع عظماء الموسيقى في العالم وفي أعمال فنية، منهم الفنان الكبير روجر وترز (بينك فلويد) والفنان الكبير آر رحمان، ومؤخرا مع أهم فرق العالم كـ(ولد بلي) في أسطوانتهم ما قبل الأخيرة أرابيسك، وحصل الثلاثي على العديد من الجوائز العالمية والتكريمات والأوسمة، أما أهمها فهو تقدير الجمهور المتنوع من الأجيال والمتنوع من الثقافات لهذا النوع من الفن.
في ظل الأوضاع الراهنة، قد يقول البعض: «كيف يطيب لكم العزف وفلسطين تعيش مأساة»، هنا أسأل ما دور الفن في التخفيف من وقع الألم؟
لم ينسلخ أبدا الثلاثي جبران منذ نشأته عن قضيته، فلسطين وشعبه؛ فالثلاثي يقدم فلسطين من خلال الثقافة الهادفة والراقية في كل محافل الدول، والثقافة جزء مهم لطرح مصداقية شعبنا والذي يعيش آخر احتلال على وجه الأرض، كما أن الثلاثي وبعيدا عن البعد السياسي فهو معروف باهتمامه في المجتمع الفلسطيني في الداخل، فقد قدمنا العشرات من الحفلات دعما لمؤسسات خيرية في فلسطين والمواضيع الاجتماعية المهمة، أذكر على سبيل المثال تقديم الثلاثي أمسية موسيقية متتالية دون توقف لمدة ١٢ ساعة على مسرح رام الله، وكانت في شهر أكتوبر منذ خمس سنوات، وهي للتوعية بسرطان الثدي، واستطعنا جمع أكثر من مليون دولار في هذه الأمسية التاريخية دعما لمرضى سرطان الثدي وهناك العديد من المبادرات الأخرى.
أما عن هذه المرحلة فنحن الشعب الفلسطيني محكومون بالأمل؛ لأننا نعشق الحياة، ومع كل رائحة دم ووجع وسفك ماكينة الاحتلال، نؤمن بأننا نحمل ثقافتنا بعيدا كي نحث العالم على الوقوف معنا في حقنا في العيش دون احتلال، ومن هنا قررنا أن تقديم كل أمسياتنا الموسيقية في هذه الفترة لصالح أهلنا في قطاع غزة، وسيذهب ريعها لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، الجمعية التي تعود شراكتي معها منذ سنوات عديدة، وسنأتي إلى سلطنة عُمان نحمل أعوادنا ونحمل وجعنا وأملنا وصوت درويش معنا لنذهب بعيدا في حس إنساني، ونشكر الحضور على وقوفهم معنا، ونفعل القليل من أجل أهلنا في غزة ومن أجل الأمل بمستقبل أفضل.
كيف يحمل الفنان الموسيقي رسالته السامية إلى العالم، وما هي رسالتكم الفنية؟
أعتقد أنه من واجب كل فنان أصبح عالميا أن يتبنى قضية إنسانية؛ لأن الفنان يجب أن يحمل رسالة، وإذا كان الفنان فلسطينيا فيجب أن يعيش أصدق قضية على الوجود، فهو نتاج وجع وقهر وهو نتاج أمل وعيش بحرّيّة، وهو انعكاس لهذا الواقع، وهنا يكمن السؤال الجدير بالتفكير «هل الوطن بحاجة لبراهين ثقافية؟ أو الثقافة بحاجة لبراهين وطنية؟»، ولا أعرف الإجابة أبدا ولكن أطمح أن نُألِّف موسيقى من دون ضغط الهوية؛ لأن الإبداع الحقيقي يجب أن يكون حرًّا، ولكن ما دمنا تحت الاحتلال فليس بالإمكان أن نكون فنانين طبيعيين في ظروف غير طبيعية، أتمنى أن يتحرر الوطن كي يتحرر الوتر، وأخيرًا أتقدم بجزيل الشكر لدار الأوبرا في سلطنة عُمان على دعوتهم الكريمة ولكل أهلنا في عُمان وعلى الموقف الرسمي مع عدالة قضيتنا، قضيتكم، قضية العرب أجمع، نتوق لرؤيتكم قريبا.
وسام جبران:
ننتقل إلى سؤال الفنان «وسام جبران» ونعود بك إلى ذات السؤال الأول، كيف تروي لنا أولى تجاربك في آلة العود، وكم كان عمرك حينها؟
اعتبر نفسي محظوظا لكوني ولِدت في بيت يسكن فيه الفن منذ أجيال، بدأ هذا المشوار الفني لعائلة جبران منذ أكثر من قرن من الزمن، والدي هو من الجيل الثالث في عائلة جبران حيث يتقن حرفة صناعة العود، وأنا أصبحت الجيل الرابع في صناعة العود والعزف والتلحين.
لا بد وأنك رأيت أخاك الأكبر «سمير» وهو يعزف على العود، هل ولَّد ذلك فيك الغيرة الحميدة لتكون عازفا مثله؟ وكيف تصف التحدي بينكما؟
حكايتي الفنية بدأت في عمر مبكر جدا، حيث كنت أشم رائحة الخشب من أضلاع العود. أفتح عيني لأرى أمي تنشد بعضًا من الموشحات والكثير من الأغاني الكلاسيكية العربية الأصيلة صاغيةً لدندنات أخي الكبير سمير حيث يعزف العود بكل شغف وإتقان، لمست أناملي الخشب وأنا بعمر خمس سنوات حتى نجحت بصناعة آلة موسيقية بدائية والتي جعلتني متمسكًا بهذا التراث العريق.
اليوم وأنتم تصلون إلى هذا المستوى العالمي، أما وصلتم إليه نتيجة موهبة وهواية فنية فقط، أم أنكم درستم التخصص في مجال العود؟
نطمح إلى البعيد، ونحترم ماضينا، التحدي اليوم هو قوة التواصل بين الأخوة جبران وكيفية إيصال الرسالة الفنية والوطنية إلى العالم، التحدي اليوم هو بين شعوب وثقافات، ووحدة الأخوة هو انعكاس عن وحدة الشعب الفلسطيني الذي يحلم بالحرّيّة، ما وصلنا له اليوم هو ناتج عن مزيج بين الحرفية والموهبة والاجتهاد معًا، لكن الأهم، هو حب الجمهور لنا.
عدنان جبران:
الفنان عدنان جبران، أصغر الأخوة الفنانين، كيف أثّر أخواك على نشأتك الفنية الأولى؟
نحن ننحدر من عائلة فنية، موسيقيين وصانعين للعود، وبذلك وُلِدتُ بين عود وعود حينا، وبين نغمةٍ وأخرى حينا، شعرت بالاكتفاء بموسيقيتي دون المساس بالعود حتى السادسة عشرة، لعل مسيرتي تختلف، وإذ بوسام أخي الأوسط، يسافر بعيدا ويترك البيت ليتعلم صناعة الكمان في إيطاليا، وكانت فرصتي بأن أمسك آلة عودهِ، التي منعني أن أمسها بحضوره، وإذ بأصابعي أن تعزف كل النغمات والجمل التي سمعتها على مر السنوات، والمعاني التي أردت أن أبحث عنها في بداية مراهقتي. وإذ بسمير ووسام يجولان العالم بعروضهما، فتركت أحلامي لأنضم لحُلمٍ لربما عائلي، أو فردي، أو فلسطيني، وهو الثلاثي جبران.
انطلقتم كثلاثي فني في عام 2003 وأنت الأخ الأصغر، ولطالما كان للجمهور وتفاعله ثمار لدى الفنان اليافع، عُد بنا إلى الطفولة واستذكر شعورك أثناء ترحيب وتصفيق الجمهور لك؟
للتدقيق، الثلاثي بدأ في عام ٢٠٠٤ وكنت في الثامنة عشرة من عمري، وما زلت أذكر رهبة المسرح وخوفي من ضجيج التصفيق، ومن أعين الجمهور، كانت في باحة حديقة اللوكسيمبورغ، في باريس، بعد أن هطل المطر ظننت أن العرض سيُلغى، وما بالشمس الباريسية أن تُبعد الغيوم من جديد، ولم أتمكن من الهروب من أعين الناس، أراهم حين نعزف، أعينهم تتسابق لرؤية الإخوة الثلاثة، تصفيق كالموسيقى، ما يحلُم به كل عازفٍ. بداية لمسار شيّق، وذات خطورة بالفشل، ولكّني أحببت التحدي، وكنت خلال السنوات الخمس الأولى من هذا المسار أرفض أن أنتمي أو أتباهى بالنجاح، كي لا أغذّي نرجسيتي، وكي أجتهد أكثر لاستحقاق النجاح الدائم، وكنت أعترف بأني دون إخوتي عندما أكون على خشبة المسرح.
ولهذا، اليوم وبعد تجربةٍ طويلةٍ، أكن لهذه الفترة، فترة بدايتي كفنان، أفتخر بالتحلّي بالواقع، وترسيخ أرجلي بالأرض، وإيماني بالمشروع.
محطاتكم الفنية كثيرة جالت العديد من الدول والأمصار، ما هو نصيب فلسطين بلدكم الأم من هذه الحفلات؟ وما يعنيه لكم أن تقدموا أعمالكم هناك؟
دائما نطمح لأن تكون فلسطين أول الأماكن لعرض موسيقانا إن كانت عرضا أو أسطوانة جديدة، وإن لم تكن الأولى، فهي حتمية لشرعية عملنا الفني، جمهورنا في فلسطين هو العائلة الكبرى، وهو من يبارك أعمالنا قبل تجوالنا في العالم. وحين نعرض عالميا تكون خشبة المسرح دولتنا، فلسطيننا الحرّة، نقدم حضارتها المتحركة المتفاعلة، وجذورها في كل نغمة منا.