No Image
عمان الثقافي

فصل من رواية: بوصلة السراب

24 يناير 2024
24 يناير 2024

انكبّ على جزء عمَّ وراح يقرأ منه.

لم يكن واضحا إن كان المعلم سعيد قد غط في النوم فعلا. عيناه الغائرتان مغمضتان ووجهه النحيف ساكن. وحدها لحيته الطويلة، وقد استعمرها الشيب، ما برحت تتحرك مع النسائم التي تهب على السقيفة...

...غرفة تشبه الحوش الداخلي في دار جدّه، مفتوحة على ثلاث جهات، ولكن هذه مسقوفة بعريش. جريد النخل اليابس يتراكم فوقها ويتدلى من حواف السقف مثل كشة شائبة. هناك عمودان طينيان عريضان، ليسا عاليين، يرفعان السقف السعفي، وجدار طيني وحيد يستند إليه المعلم، ودكة طينية منخفضة، تطوق أرض السقيفة، وترسم حدودها، فضلا عن أنها متكأ للجالسين.

أبطأ محمد في قراءته المتعثرة وسرح بنظره: تارة إلى المعلم، وتارة نحو الخارج. لم يحضر الطلابُ بعد، وضوء النهار يبدو مخمليا، مُهادنا، في هذه الدوحة الوادعة. فإذا ما أضفنا أصداء ماكينة الديزل، وارتجاعاتها البعيدة المتكسرة، أحسسنا بأننا نطفو على أمواج ناعمة، أو كأننا في جزيرة ظليلة، انفصلت عن الأرض وطفقت تبحر في المياه، حرة طليقة.

ولكن الوقت لا يطول كثيرا حتى يتسرب الملل إلى محمد. يتوقف عن القراءة، تحدوه الرغبة في اللعب، فيثبّت نظره في المعلم، ويتأكد إن كان نائما بالفعل. يفرد ظهره ويواجهه. يحدق في عينيه الغائرتين، الخاليتين من الرموش، وفي حاجبيه الكثين، وجبينه العريض بغرته الداكنة. يتفرس في أنفه الغريب، ذلك الجزء الضخم من وجهه الهزيل، فيخاله حبة مانجو ناضجة، ستنفصل عن غصنها وتسقط. يتوقف عند فمه المزموم، وينزل إلى لحيته المتدلية، الشبيهة بشمروخٍ دقيق، ضاربٍ في القِدم. أخيرا يوجّه أنظاره إلى حجره المكوّم: المكان الذي سيسقط فيه أنفه الناضج.

يفعل مثله. يغمض عينيه ويزم فاه ويمص خديه. فكّر أن يدلي لسانه للشيخ الفضّ، الذي نعته قبل قليل بابن الكافر. قرر ذلك واستعد له، ولكن عصا المعلم سبقته، فهوت بجوار رأسه، وشقت الهواء عند أذنه، محدثة صفيرا حادا أجفله، فمال بجسمه عن العصا التي مرّت بجواره واصطفقت بالأرض. حين نظر إلى المعلم، وقع بصره على فمه المفتوح، ونابه الوحيد الذي لاح كرمح أسود على مدخل مغارة.

«اقرأ يا ابن الكافر! اقرأ ولا تسكت!»

تابع قراءته المتلعثمة وعاد المعلم إلى تناومه.

بعد قليل وقف طفل خلف الدكّة، وبحركة سريعة، خلع نعله وقفز عبْرها. ألقى السلام ولثم يد المعلم وجلس بجوار محمد.

يبدو أنه أصغر منه، أو ربما كان أقصر وحسب. بشرته بيضاء وعيناه خضراوان، لم ير محمد مثيلا لجمالهما. ناداه المعلم وما زال مغمض العينين، يبري طرف لحيته بإصبعيه: «مزهود!» فأجاب الطفل بصوت قوي، متحدٍ، كأنه يستعد لخوض معركة ويريد إظهار قوته للخصم: «نعم!» «اقرأ سورة الجن!».

فتح الطفل جزء تبارك في حجره وبدأ يقرأ بصوت جهوري سريع.

يتعثر أحيانا بالكلمات، فيتمهل ليبتلع ريقه، ولكنه ينطلق بعدها أقوى من ذي قبل، قاطعا على المعلم أن يساعده.

«جميل وجريء!» - ساور محمدا إعجاب ممزوج بالحسد. «وفوق هذا يقرأ جزء تبارك!»»

توافد الأطفال بعدها، مثنى وفرادى، أولادا وبناتا. يلثمون يد المعلم ويجلسون، مقاطعين بين أرجلهم. كان بعضهم نشطا، يسابق خطواته وهو يمشي، وآخرون يجرونها جرا.

ذات مرّة سمع جده يشتم التلفزيون. يسميه «تلف العيون» ويقول إنه أتلف أطفال المكان: «يسهرون عليه وفي الصباح يترنحون مثل السكارى».

رشيد ورشيدة كانا آخر الواصلين وكانا يمشيان مثل السكارى. جلسا عند الدكة واستندا إليها.

غرقت سقيفة القرآن في همهمات الأطفال، فتقلص معها صوت الماكينة، ما لبث بعدها أن انقطع كلية.

كانت أصواتهم تعلو وتنخفض مثل طنين النحل، وكان الواحد منهم يبدأ قراءته بإشارةٍ من المعلم الذي يحفظ أسماءهم، واحدا واحدا، ويعرف الأجزاء التي يحملونها.

تزداد جلبتهم مع تقدم النهار ويتفاقم جنوحهم إلى الهرج وافتعال الفوضى. قلة منهم فقط لزموا سمتهم، فانكفؤوا على أنفسهم وانفصلوا عن أترابهم. وقد احترم الآخرون موقفهم، أو ربما لم يجدوا سبيلا إلى اختراق متاريسهم القوية، فتركوهم وشأنهم.

أحد هؤلاء مزهود، جميل الطلعة، الذي ظل حارسا على نفسه، متأهبا للذود عنها. وصبي آخر بدا غريبا لمحمد، بقيَ جالسا تحت أحد العمودين فكأنه ظلٌّ له. بل هو ظل باهت قياسا إلى حضور الآخرين.

كان الوحيد الذي يحمل مصحفا كاملا. قوّس ظهره وأحنى رأسه على الكتاب. أحيانا كان يطرف بعينه، فيسترق نظرة خاطفة إلى ما حوله ثم ينكفئ على نفسه من جديد.

جال محمد بنظره في السقف حتى وقع على وزغ صغير كان يتلصص عليهم. «نعم، إنه يشبه هذا الواشي» - جال في خلد محمد. «يشبهه، لأنه مثله، خائف وهارب من العقاب».

كان يرتدي دشداشة نظيفة ولكنها عتيقة، حال لونها وقصرت عن قامته الطويلة. إزاره هبط أسفل دشداشته، أما طاقيته فقد رقَّ قماشها وانمحت نجيماتها واهترأت حوافها. لقد كان الفقر باديا عليه مثل رسمٍ منقوشٍ. وإن كان الأطفالُ يتجنبون مزهود لنزقه الحاد المؤذي، فهم يحجمون عن هذا الهزيل لهشاشته البيّنة، وبسبب الانطواء الذي يُطبق عليه.

«اقرأ يا سليمان! اقرأ يا ولدي!» - قال المعلم بصوت هادئ، عطوف، ثم اعتدل في جلسته. فرد ظهره وأوكأ عصاه على كتفه، ضاما إياها بساعده حتى غدت قوسا مشدودا عن آخره.

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. ألهكم التكاثر. حتى زرتم المقابر»

جاء الصوتُ من جهةِ العمودِ الأيمنِ فحلَّ الصمتُ فجأة. كأن ماءً باردًا سُكب على رؤوس التلاميذ، أو أن شيئا باغتهم وعقد ألسنتهم.

«كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون»

بدأت القراءةُ خافتةً، بصوتٍ متهدجٍ، ما برحت بعدها تتصاعد، كلمة بعد كلمة وآية إثر أخرى، وتزيد من وتيرتها. مع ذلك فقد ظلت رعشة الصوت ماكثةً في مهدها، تتدفق من قعرٍ بعيد، تتشرب من الكلمات وتسقيها في آنٍ معا. وكانت أوتاره الصوتية، الصاعدة الهابطة، ترِنُّ في الآذانِ وتتغلغلُ في الحشا، محركةً إياهُ برقةٍ تارةً وبعنفوانٍ تارةً أخرى.

«كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين»

نظر محمد إلى المعلم فوجده هادئا، شارد الفكر، يسبح في ملكوت بعيد. مع ذلك فقد رأى عينيه منفرجتين قليلا، ولمح فيهما التماعة دمعة.

ثم التفتَ يسارا حيث جلست البنات ووجدهن واجمات أو مطأطئات الرؤوس، وإلى اليسار حيث الأولاد، فوجدهم ذاهلين، أنظارهم ساهمة. أما الصبي نفسه، فقد استوى في جلسته، منتصب الظهر، فبدا ساعتها، ويا للعجب، قويا وصلبا، مثله مثل العمود الذي يتكئ عليه.

«كيف يمتلك الضعف كل هذه القوة والجمال؟» - تبادر إلى ذهن محمد قبل أن يقع هو الآخر في أسر الصوت الشجي.

قرأ سورة أخرى، وراح يشحن السقيفة بشجوه، ويترع الأطفال وشيخهم بصفو عواطفه، بل خُيّل أن الطيور قد صمتت في الخارج، وسكن الهواء، وتوارى الخلق كله خلف صوت سليمان. ولكن المعلم، في لحظة معينة، قرر أن يوقف هذا الفيض العارم، وأن ينهي البوح الوجداني لئلا يتحول إلى عذاب، فأوقفه في وسط سورة يس: «صدق الله العظيم» وردد الصبي بعد معلمه: «صدق الله العظيم»

انقضى الصباح وأشرف الضحى. الأطفال يشتعلون رغبة في اللعب. ازداد صخبهم، أولادا وبناتا، وفي غير مرّة، كان الصخب يتحول إلى شغب وشجار.

رشيد يقرص الولد الذي أمامه، وولد آخر، ظل صامتا طوال الوقت (اتضح الآن أنه أبله) استغل حالة الهرج وأطلق العنان لنفسه، فراح يسحب طاقيات الأولاد ويرميها خارج السقيفة، أو يصفعهم في أقفيتهم، ثم يتلقى ردودهم العنيفة بمزيج من الضحك والبكاء. خلال ذلك، لم يكفّ المعلم عن الزجر والنهي، ولم تتوقف عصاه عن القفز فوق الرؤوس والأكتاف، وهكذا حتى أعيته شقاوة الطلاب، وأضجرته خفتهم، فأعلن عن انتهاء الدرس بصيحة قوية، وضربتين على الأرض بعصاه: «الضحى، الضحى».

قام الطلبة في لمح البصر وشرعوا يتقافزون فوق الدكة ويستظهرون سورة الضحى، صياحا وزعيقا: «والضحى والليل إذا سجى». بحثوا عن نعلهم. انتعلوها كيفما اتفقوا وتفرقوا في الدروب، يمينا ويسارا، وفي غابة النخيل تردد صوت صبيّة: «وللآخرة خيرٌ لك من الأولى» ثم تناهى صوت صبيّ كان يقفز من سور طيني واطئ: «ولسوف يعطيك ربك فترضى» فصدح صوت سليمان عاليا، كأنه يريد إيصاله إلى السماء: «ألم يجدك يتيما فآوى» وبالقرب منه اندفع صوتا رشيد ورشيدة يتحديانه: «ووجدك ضالا فهدى. ووجدك عائلا فأغنى» فاستجاب سليمان للتحدي وكان صوته قد بلغ السماء فعلا: «فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر» وفي أبعد نقطة من غابة النخيل، تراجع صوت مزهود، برغم قوته وعنفوانه، وضاع في أحشاء القرية: «وأما بنعمة ربك فحدّث».

النص فصل من رواية بعنوان «بوصلة السراب» صدرت مؤخراً عن محترف أوكسجين للنشر وتقع في 272 صفحة من القطع المتوسط.

أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني.