طوفان الأقصى البداية والنهاية

03 يناير 2024
03 يناير 2024

ظلّ الصراع لعقود طويلة، أو كما استمرت تسميته هكذا «الصراع» بين الفلسطينيين أصحاب الأرض وشتات الصهاينة الذين تسموا باسم «إسرائيل» قائما، وظلت المشاهد المكررة له من تقتيل للمدنيين من الجانب الصهيوني، واكتفاء المقاومة الفلسطينية بقتال المسلحين والجيش الصهيونيين، وما بين كر وفر، ومن المجازر التي ارتكبت بداية النكبة حتى المجازر التي ترتكب اليوم؛ فقد الدم والموت والقتل الكثير من مهابته وذعره، وصار شيئا عاديا، فأن يموت فلسطيني -لا ذنب له سوى كونه فلسطينيا يعيش في أرضه وأرض آبائه وأجداده- أو أن يموت مليون فلسطيني، فالأمر سيّان. فما معنى أن يموت الفلسطيني اليوم؟ ولماذا نكترث له اليوم؟ أليس موته أمرا محتما وطبيعيا؟ ثم ماذا يعنينا في موت الفلسطيني البعيد عن أرضنا..

ظلت القضية الفلسطينية بوصلة لأحرار العالم أجمع، وظل الهم الفلسطيني موازيا ومعادلا لـ«الشرف» و«العدل» و«الحرية» و«العدالة» و«الوطن» و«المقاومة»..وماذا بعد؟؟ ؛ لقد صار الهم الفلسطيني حجر الأساس لمعرفة الحق من الباطل، فكل ما يندرج تحت الحق والخير فهو مندرج بالضرورة تحت نصرة القضية الفلسطينية والوقوف معها. وحتى في القراءة التي تعد ترفا عند البعض -وهي فكرة قاتلة بالمناسبة- لم أطق يوما القراءة لمخلوق علمت بمناصرته للصهيونية ضد أصحاب الحق والأرض، بل لقبوله الصهيونية كشيء مسلم ولا مناص من قبوله.

إننا حين نقرأ التاريخ، فإننا نقرأه مجمدا في ثلاجة الموتى، ونتعامل معه كشيء مضى وانقضى؛ بينما هو شيء متجدد وحيّ بحياة قرائه والمتابعين له المتتبعين لإرهاصاته وسيرورته ومآلاته، ومتى أخرجنا التاريخ من حيزه الماضوي إلى الحيز الآني، رأيناه واقعا متجسدا أمامنا ينبض بالحيوية والحياة. فإذا جئنا لتاريخ الخلافة الإسلامية في بدايتها، فسنجد مثال قضية عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ولو تتبعنا ما بعدها بفترة قصيرة؛ سنجد الدولة الأموية التي بدأت تتجلى فيها المعاني الصريحة لخبث السياسة ومحيطها. فقد كان من قادة الجيوش في الدولة الأموية ومن رجالاتها المعتبرين «المهلب بن أبي صفرة»، وقد كانت له من المكانة والحظوة ما كان بسببها يلقَّب بلقب الإمارة. ثم انقلب الوضع رأسا حين صار ضد الأمويين، فنبزوه بالألقاب وصار فجأة مزونيا عمانيا لا علاقة له بالدولة من قريب ولا بعيد!. ماذا يعنينا في حادثة المهلب التي أشرت إليها باقتضاب شديد؟، إن حادثة كهذه تعلمنا ألا نقبل الأمور على عواهنها، وخصوصا في وقت الحرب والقتال. وحيث إن معركة الصهيونية والكيان الاستيطاني الذي زرعته قوى الاستعمار في الجسد العربي معركة قديمة مستمرة، فلا سبيل لمواجهتها إلا بالعلم والمعرفة أولا.

العلم والمعرفة أساسان، ولأننا رددنا هذه العبارات ترديدا شفهيا لعقود، فقد صار معناها منزوعا وظلت تستخدم كـ«كليشيهات» كما يقال، أي كعبارات جاهزة للاستعمال تصلح للصقها في الكلام المرسل. بينما لو أخذنا العلم كعقيدة واستعملناه استعماله الصحيح، لما استخففنا بعبارة كهذه. وهذه دعوة لأن تعيد الحكومة تخصص الفلسفة في جامعة السلطان قابوس، بل وتعميمها على الكليات والجامعات في سلطنة عمان، هي والمنطق على السواء؛ لأن من لا يملك المنطق السليم الباحث في أساسات الشيء وجذوره الأولى، ستخلبه النتيجة التي تتبدى زهورا، وهي في حقيقتها زهور مسمومة.

أوشك الناس على نسيان القضية الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر المنصرم، وما بعد السابع من أكتوبر من الخيرات ما لا يعد ولا يحصره حاصر وعاد. فمن وعي بالقضية الفلسطينية، إلى رجوع للقراءة، إلى معرفة بالعدو، وتمسك بالوطن والإيمان به، إلى مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال والتي تحولت إلى مناصرة للشركات الوطنية العمانية وهو ما يخدم الاقتصاد الوطني، وهو ما أدى بدوره إلى الوعي الاقتصادي العام المتجاوز لحدود الوطن الجغرافية.. وأمور كثيرة لا يتسع المجال لعدها ولا يستطيع إنسان واحد حصرها، بل هي مهمة المفكرين الأحرار ليلخصوها ويخرجوا بنتائجها الكلية للعالم أجمع.

يخبرنا التاريخ بأن الأرض باقية، وبأن الملوك والأباطرة والغزاة راحلون لا محالة، وبأن الطغاة مهما بلغوا من قوة وعتاد فإنهم منهزمون لا محالة؛ ولكن ما دورنا نحن كأفراد في مواجهة الطوفان؟ وبالطبع لا أعني الطوفان الذي نناصره ويناصره أحرار العالم أجمع؛ بل الطوفان المضاد!. إن تأثير التفكير المادي باعتبارات 1+1=2 الذي تغلغل في فكر العالم الشرقي المعروف بروحانيته ورسالاته السماوية، بدأ بالانحسار؛ وصار الناس مدركين بأن التأثير الذي يحدثه إنسان واحد لا يلزم أن يكون تأثيرا ماديا بالضرورة، بل إن تأثيره قد يكون مقصورا على صاحبه فحسب. فأن يختار إنسان المقاطعة، أو أن يختار الحديث والكتابة، أو أن يختار التبرع بأمواله أو ثيابه أو طعامه، أو يسهم بأي شكل من الأشكال في مساندة الحق ومناصرته؛ فهو خيار ذاتي معناه بأنه لا يريد لروحه أن تصيبها لوثة ولا لمبادئه أن تتغير. ومما يبهج القلب ويبعث على السرور، موقف الحكومة في شيئين: في مناصرتها للقضية الفلسطينية، وفي تركيزها على الأسرة وأهميتها وقداستها. فالأسرة في الفكر السليم مبدأ ثابت لا يتزعزع ولا يتحرك؛ أما الفكر المادي فيتعامل صاحبه مع أبيه وأمه -وهما أقرب قريبين للإنسان!- بوصفهما كائنين بيولوجيين أتيا به إلى الحياة وانتهى دورهما بعد تنشئته وإطعامه حتى الكبر. وهو فكر خطير ومدمر، وهو أساس الفكرة التي بدأت بها المقال؛ فأن يتخفف المرء من مبادئه شيئا فشيئا، فلا بد له من أن يصل في النهاية إلى اعتبار الكل أداة لتحقيق مآربه، وإلى اعتبار الآخرين ذرات وكيانات بيولوجية مصيرها الفناء لا قدسية لدمها وروحها.

نعم، بدأ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر؛ ولكنه لم ولن ينتهي. فإن ما بدأ كمقاومة مسلحة، تجاوز السور الفلسطيني إلى سؤالات أعمق وأكثر شمولية؛ فمن نحن في هذا العالم الشاسع؟ وماذا نمثل لأنفسنا وللعالم؟ وهل سيحمينا أحد إن لم نتسلح بقوة العلم والسلاح؟ وهل ينظر إلينا كمكافئين للعالم أم أننا مجموعة بشرية مستهلكة وينظر إلينا من هذا المنظور فحسب؟.. سؤالات كثيرة تجاوزت القضية لتصل إلى جذور الذات ومنبع الوجود الأول، متجاوزة الحُجُبَ التي عملت المصالح على ترسيخها لسنوات وسنوات من الفيض الهائل من الأكاذيب المنمقة في الأفلام والمسلسلات والكتب والروايات وكل ما يمثل الثقافة، والتي اتضح في الختام أنها ملطخة لا بالدم وحده، بل بالوحل والقذارة وكل صفات الشر.

وإذا كان للمرء حلم في هذه الحياة، فهو أن يرى بلاده مزدهرة في شتى المجالات؛ فأن تصبح عمان مستهلكة لما تزرعه وتنتجه، فهو حلم يحق لكل عماني أن يحلم به؛ وهو حلم يطرق باب الضرورة بعدما شاهدنا شراسة العالم في التكالب على الضعيف والاقتيات على بقايا روحه وجسده.