فكر.. فلسطينُ المُخْـتبـرُ لِـزِنـةِ القيـم
فجَّـرتْ غـزّةُ يـنابيـعَ النّـفس البشـريّـةِ كلَّـها: خَـيْـرَها وشَـرَّهـا، فضائـلَـها ورذائـلَـها. وزّعـتِ العالـمَ على فُسطاطيـن متـقابِـليْ منظـوماتِ القـيم والمبادئ... والسّياسات: على عالَـمٍ سادرٍ في حماية البَـغْـي والجريمة وفي التّـسويـغ لهما باسم حـقّ المعـتدي الغاصب «في الدّفـاع عن النّـفس»، من غير أن يـرفّ لذلك العالَـم جـفنٌ وهـو يـرى، بأمّ العيـن، أفـعالَ الإبـادة الجماعيّـة الشّنـعاء تَـصِلُ اللّيـل بالنّـهار لمحْـوِ وجـود شعـبِ فلسطـيـنَ في غـزّةَ، ولإجـبارِ البقـيّـة الباقيـة على اللّـجوء خارج بـقايا الوطـن من طريق التّـهجير القـسْريّ!؛ في مقابـل عـالمٍ ثـانٍ من الأحـرار والشّـرفاء الذين استـشـنعوا الأفعـالَ النّـازيّـةَ الرّهيـبةَ لـدولة الإرهاب الصّـهـيونـيّ ضـدّ المدنـيّـين في غـزّة، فطـفِـقوا يحـتجّـون عليها في مئـات المسيرات الشّـعـبيّـة العارمة، التي جابـت شـوارع العواصـم والمـدن في أركـان الأرض كافّـة، تطالـب حكوماتها - المتواطئـة أو المتخاذلـة - بالضّـغط على «إسرائـيل» لوقـف عـدوانها البـربريّ. وفجـأةً، بَـدَتِ البشـريّـةُ وكـأنّـها بشريّـتان من محْـتِـديْـن ومن أَرومتـيْـن لا وجْـهَ قـرابـةٍ بينهـما: تـنـتصـر الأولـى للظّـلم والعـدوان والحرب واهتضـام الحقـوق، فـتُـؤمِـن بالمَـيْـز بين البشـر على قـواعـد العِـرْق والدّيـن وتُـرّهـات الأساطيـر؛ فيما تـدافع الثّانيـةُ عن العـدْل والحـقّ والسِّـلم والإنصـاف، فـترفـض أيَّ منـزعٍ إلى الكيْـل بمكياليْـن في تناوُل أزْمـات العالـم ومشكلات شعـوبـه ودوله، وتَـجْـهـر بمسانـدة حـقّ شعب فلسطيـن في أرضـه وسيادته عليها.
بين العالَـميْـن فَـتْـقٌ عميـقٌ لا يَـقْـبَـل الرَّتْـق، هـو عيـنُـه الفـتْـقُ الذي يفْـصـل الخيـرَ عن الشّـرّ، الحـقَّ عن البـاطـل ويُـبايِـن بينهما. وهـو، قطـعاً، وجْـهٌ من وجـوه التّـناقـض بين مصالـح المعسـكريْـن: معسكـر الدّول والكـارتيـلات وقـوى الرّأسـمال من جـهة، ومعسكر الشّـعـوب وحركـات التّـضامـن الإنسانيّ من جهـةٍ أخـرى. هـذا تـناقـضٌ يجـري داخل المجتمع الواحد في كـلّ بـلـدٍ من العالـم، بمـقـدار ما يجـري على الصّـعيد الكـونيّ: صعيد الدّول والشّـعوب، وليس يمكـن مَحْـوُهُ إلاّ في نـادرِ الأوقـات التي تَـنْـضَـج فيهـا شـروطُ بـناءِ تـوازنٍ في المصالـح: بين قـوى المجتمع الوطنـيّ الواحـد، وقـوى «المجتـمع الدّولـيّ»؛ وقـلّـما كان ذلك في دائـرة الإمكان. غير أنّ الفَـتْـق هـذا يـنتمي إلى واقـعٍ آخـر: إلى تَـقَابُـلٍ مـاهـويٍّ حادّ بين منظومات القيـم؛ أكان ذلك على صعيـدٍ ضيّـقٍ من الدّوائـر المجتمعيّـة الوطـنيّـة، أو على صعيد الدّائـرة العالميّـة الأوسـع والأشـمل. نحـن، إزاء هـذا التّـقابُـل، نقـف أمام نسـقـيْـن من القيم على طـرفـيْ نقـيض: نسـقٌ من قيـمٍ أبـدعـتْـهَا الثّـقافاتُ، والأديـان، والخبراتُ الحضاريّـة المتعاقبـة، ومـوجاتُ الفـكر الكبرى في العصـر الحديث...؛ ونسـقٌ ثـانٍ لقيـمٍ هي من نَـشْءِ سوءٍ: تـولّـدتْ من الرّأسمال وأخلاق الرّأسماليّـة ورَبِـيَـتْ في أكـنافِ مصالـحَ أَوْدت بـكلّ مبـدإٍ من خارجـها! وليس من وجْـهِ شـبَـهٍ أو نقطـةِ تقاطُـعٍ بين ذينك النّـسقـيْـن الثّـقافـيّـيـن والقِـيَـمِيَّـيْـن لأنّ مـأتاهـما من مصدرين متضادّيـن. لذلك إذْ يَـسَـعُ الشَّـقَّ بين المصالح أن يَـشْهـد على تسويـةٍ بين قـواهُ المتقابلـةِ تـنتهي بها إلى تـنازُلاتٍ متبادَلـة تجـترح بها حـلاًّ تـتوازن فيه المصالـحُ بينهما، يمـتنع ذلك على التّـقاطُـب الحـادّ بين نسـقيْ القيم ذَيْـنِـك؛ إذْ هي لا تَـقْـبَـل التّسـوية بينها على أيّ وجـه؛ وأَنَّـى لتسـويـةٍ بين الحـقِّ والباطـل، الخيرِ والشّـرّ، النَّـصَـفةِ والحيْـف، الحريّـةِ والاسـتعـباد أن تكون في حكـم الإمكـان!
على أنّ استحالـةَ اجـتراحِ تسويـةٍ بين النّسـقيـن المتـقابليْـن ليس يعـني، بحـالٍ، انعـدامَ عـلاقاتِ تـأثيـرٍ متبـادَل بينهـما: إنْ سِـلْـبـًا أو إيجـابـًا. نعم، مـن النّـافـل القـول إنّ السّلطان الماديَّ والسّياسيّ الفـعلـيّ في العالـم يعـود إلى نسـق القيـم الأوّل الذي مـبْـنَـاهُ على المصالـح الضّـيّـقة لقـوى الرّأسمـال في الغـرب ولِـمـن يدورون في فلـكـها من الوُكـلاء والتّابـعيـن، ويقاسمـونـها القيـمَ عيـنها: القـوّة المجـرَّدة، والعنصريّـة، وأوهـام الاصطفاء الطّبيعيّ والإلهيّ والتّـفـوُّق... إلخ! ولأنّ لـه ذلك السّـلطانُ السّياسيّ، فهـو يفـرض أحكامَـه، بالضّـرورة، على العالـم ويفـرض القيـودَ الكثيـرة على نسـقِ القيـم المقابِـل وعلى قـواهُ الاجتماعيّـةِ والعالميّـةِ بالتّـالي. ولكـنّ هـذا الأثـر لا يَـحـدُث من جانـبٍ واحد، هـو جانب نسقِ القيـم المسيـطر حصـرًا، على الرّغـم من أنّ قـوى هـذا النّسـق المسيطـر تمتـلك أدوات التّـسلُّط جميعَـها؛ إذْ تحتـكر السّلطـة والثّـروة والحقيـقة (= السّـرديّـة الإيـديـولـوجيّـة المهيمـنة)، وتـمُـدّ بـها نفوذَهـا إلى أبـعـد نقـطـةٍ في العـالـم. هـو أثـرٌ لا يحـدُث من جانـبٍ واحـد لأنّ منطـق التّـدافُـع الإنسانيّ - ومنه الصّراع الاجتماعيّ والصّـراعات الدّوليّـة - لا يُـفْـسِح مجالاً أمام قـوّةٍ واحـدةٍ وحيـدة تـحـتـلّ حلبة الوجود، بـل يـولِّـد ديـناميّـاتٍ اجتماعيّـةً مـن الجـدل والصّـراع نـزّاعـةً نحـو تحقيـقِ مقاديـرَ مّـا من التّـوازن بين القـوى. وهذا بـمقـدار ما هـو قـانونٌ في الطّبيعة والبيئـة الطّبيـعيّـة هـو، في الوقـتِ عيـنِـه، قانـونٌ في المجتمع والبيئـات الإنسانيّـة. لذلك ظـلّ مفـعول القـوّة محـدوداً في التّاريخ، فَـوَقَـعَ التّـداولُ على مواقـع الرّيادة والسّيادة بين القـوى والدّول، فانـقـرضت إمبراطـوريّـاتٌ وصارتِ الغلبةُ إلى أخـرى، وأَفَـلَتْ مدنـيّـاتٌ وحـلَّـت محلّـها أخرى؛ تماماً مثـلما وَقَـع التّـداوُلُ على السّـلطة والثّـروة، وعلى السّـيادة الثّـقافيّـة، بـل على إدارة شـؤون العالـم فلم تَـدُمِ الغَـلَـبَـةُ والصّـدارةُ لـقـوّةٍ واحـدةٍ في التّـاريخ.
هكـذا هي حـالُ الصّـراع التّـقاطـبيّ الحـادّ بين قـوى النّـسقـيـن والفسـطاطيْـن المشار إليهما؛ بمـقـدار ما يُـنْـفِـذُ الغـربُ السّـياسـيّ أحكامَـه ويـفـرض سياساتـه المسانـدة للـدّولـة الصّـهـيونـيّـة (ولـعدوانـها الوحـشيّ على الشّـعب الفلسطيـنيّ في قطـاع غـزّة) على شعـوبه وعلى شعـوب العالـم ودولـه، بما فيـها شعـوب العالميـن العربـيّ والإسلامـيّ ودُولهـما، بمـقـدار ما يُـرَدّ على سياسـاتـه العـدوانيّـة تلك بحـراكٍ مضـادّ من قـوى الفُسـطاط الثّـاني: أحـرارُ مجتمعـات الغـرب وشرفـائـها، وشعـوبُ العـروبة والإسـلام، وقـوى التّـحرّر في أمريـكا اللاّتيـنيّـة وأفريـقيـا، وقسـم من دول العالـم (دول البـريكـس، تحـديدًا، ما خـلا الهنـد!). من آيـات ذلك الشّـاهـدةِ عليه تلك المـوجةُ غيرُ المسبوقـة من آلاف المظاهـرات والمسيرات التي خـرج فيها مئـات الملايين من المتضامنيـن في العالـم مع شعـب فلسطيـن، المنـدّديـن بسياسات حكوماتهم المشاركـة في العـدوان على غـزّة، أو المتواطئـة جـهْرًا وصمْتـاً، أو المتـقاعسـة عن نصـرة شعـبٍ يُـذْبَـح على مرأًى ومسمـعٍ من العالـم. هـذا، طبـعاً، من غير أن نـتجاهل المواقـف السّياسيّـة الإنسانيّـة المشـرِّفـة لدولٍ مثـل روسيا، والصّـين، والبرازيـل، وإسبانپـا، والنّـرويج، وجنوب أفريقيـا وبوليـڤـيـا، وإيـرلنـدا... إلخ؛ ولا أن نتجاهل مواقـف الأمـم المتّـحدة ومنظّـماتها (منظّـمة الصّـحّـة العالميّـة، الأونـروا...) وأميـنها العام السيّـد غـوتيريش. لقد التأم هـذا الحِـلْف الدّولـيّ غير المعلَـن ليـتـنـزّل منْـبَـرَ جَـهْـرٍ بالحـقّ ودفاعٍ عن المبادئ التي داستها العُـنْجُـهـيّـة الأمريـكيّـة والغطرسـة الصّـهـيونـيّـة، وليشـكّـل ما يقارب أن يكون درعاً واقـيـاً لحـقّ الشّـعب الفلسطيـنيّ في أرضـه وأمنـه...، بل لِحقّـه في الحياة في وجْـه القـتـل الصّـهـيونـيّ الأعمـى.
ما كان في وُسْـع هـذه المـوجة العالميّـة الاعتـراضيّـة على السّياسـات الغربيّـة وعلى الجـرائـم الإسرائيليّـة أن تغـيّـر كثيـراً من مشـهد القـتـل اليـوميّ للمدنيّـيـن في قطـاع غـزّة وتدمير شـروط الحيـاة والوجـود فيها؛ إذْ ما بَـرِحَـتِ العقـيـدةُ الخبيـثـة القائلـة بـ «حـقّ إسرائـيل في الدّفاع عن نفـسها» تـفرض شريعـةَ المـوت على الفلسطيـنيّ حتّى يـوم النّـاس هـذا (= بعد شهـرٍ ونصـفِ الشّـهـر من بـدايـة هـذا الجـحيـم)؛ وما زالتِ الدّولـةُ الخارجـة من بطـون الأساطيـر «تـدافـع عن نفسـها» في وجْـه «إرهـابـيّـين» رُضَّـعًا وخُـدَّجـًا ومُسِـنّين وربّـاتِ عـوائـل فـتبيـحُ لنفسها من أفعال الإجـرام الشّنيعـةِ ما لـم يُـبِحْـهُ مجـرمٌ لنفسـه في التّـاريخ !؛ وما فـتئ الغـربُ الرّأسمالـيّ القبيـح يكـذب على نفسـه وعلى العالـم حين يتـلطّـى وراء عبـاراتٍ تنتـمي إلى قانونٍ دولـيّ دِيـسَ بأقـدام قانون الغاب الأمريكـيّ- البريطانيّ- الصّـهـيونـيّ... إلخ. بيد أنّ هـذا كـلَّـه لـن يكون مدعـاةً للقـول بـقَـدَريّـةِ هـذا المنحـى الـنّـازيّ الذي يقـودنا والبشريّـةَ إلى النّـفـق المسدود؛ إذْ يملك هـذا الـفُسطاط الإنـسانيّ الاعـتـراضيّ - ويملك ضميـرُه الحـيّ - أن يكـبـح جِـمَـاح هـذا الشّـرّ المطلـق ويَـكُـفَّ الكثيـرَ من أذاهُ ويردعـه عن المزيـد. من الشّـواهـد على هاتيـك القـدرة أنّ نتائـج الضّـغط الشّـعـبيّ الكـثيـف على القـرار السّياسيّ في الغـرب - كما في البـلاد العربيّـة والإسلاميّـة - بـدأت علائـمُـها تُـفْـصِح عن نفسها في ميلٍ تدريجـيّ نحـو تصحيح المـوقـف ممّا يجـري: على مثال ما كشـفت عنه المواقـفُ الجديدة لمعظـم دول أوروبـا و- إلى حـدٍّ مّـا رمـزيّ - قرارات القـمّـة العـربيّـة الإسلاميّـة في الرّياض. ولـن ننتظـر كـثيراً حتّى نـرى مطلـب وقـف إطلاق النّـار وإنـهاء الحـرب يجـري على كـل لسانٍ في العالـم.
لسنا من المـعـوِّليـن على التّـدخُّـل الدّولـيّ لإنصـاف حقوق الشّـعب الفـلسطينيّ على طريـقة محمود عبّـاس وأيتـام أوسلـو - كما لم نعـوِّل من قبـل على موقـفٍ رسمـيّ عـربـيّ وإسلامـيّ يُسْـعِـف شعب فلسطيـن ويحميـه من غائـلة العـدوان، ويـفرض وقـف هـذه الإبـادة الجماعيّـة لـه - لاعـتـقادنا بأنّ أحداً من هـؤلاء لا يـرغب في أن ينـهض بهـذا الواجـب الإنسانيّ والقانونيّ؛ إمّـا لأنّه متورّط في العـدوان (أمريـكا وبريطانيا وأخواتهما)، أو لأنّه عاجـز عن الإسناد والنّجـدة (المسلمون وعـربُ اليـوم). الفاعـل الوحيـد الذي نجـزم بأنّـه وحـده القـادر على حمْـل العـدوّ، بقـوّة السّـلاح، على وقـف عـدوانـه والكـفّ عن دمـاء الشّـعب في غـزّة هـو شعـبُ فلسطيـن من طريق صـموده والـتّـمسُّـكِ بالبقـاء في أرضـه، ثـمّ هـو المقاومـة؛ إذْ هي الوحيدة التي تـتكـلّم اللّـغة التي يفهمها العـدوّ ويقـيم لها اعتبـاراً. مع ذلك، ليس من الحكمة السّياسيّـة أن نشيح بوجوهـنا مُـعْـرضيـنَ عمّا يجـري على مسارح العالم من ضغـوط مدنيّـة كـثيـفة لوقـف الحـرب؛ وما يقـع من صحـوةِ ضميـرٍ عالمـيّ ضـدّ الرّوايـة الغربيّـة- الصّـهـيونـيّـة عن فلسطيـن وشعبها والمقاومـة: إنّها الموارد الغـنيّـة التي يحسُـن بنا - فلسطينـيّـين وعـربـاً - اغـتنامُـها. وبـعـد، لقـد تحـوّلت قضيّـة فلسطيـن، اليـوم، إلى المختبـر الأعلى الذي تُـقاس فيه القيـمُ وتُصـنَّـف إلى هـذا النّسق أو ذاك، والذي على المـوقـف منها ينقسـم العالـم بين فريـقيـن يـتـغذّيـان من موردين متجافـيّـيْـن: المصالح الضّـيّـقـة الجشـعـة والمجـرّدة من كـلّ أخـلاقـيّـة، من جهـة، والمبادئ والقيـم الإنسانيّـة من جهـةٍ أخرى. ولـن يستطـيع أحـدٌ - لا «إسرائيـل» ولا مَـن يُـرضِـعـونها ويَـحْدبـون عليها - أن يكسـر إرادةَ شعب هـذه الأرض الوحيـد: الشّـعب الفلسطيـنيّ، فـيـفـرض عـليه إرادتـه. فلسطيـنُ باقـيـةٌ والمغـتصِـبُ إلى زوال.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.