نوافذ: تفصيل ثانوي يقض مضجعهم!

05 نوفمبر 2023
05 نوفمبر 2023

تفصيل ثانوي يقضُّ مضجع الحضارة الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان والانفتاح اللامحدود على صنوف من الحريات، فقد ارتفعت أصواتٌ في ألمانيا تتهم الكاتبة الفلسطينية عدينة شبلي بمعاداة السامية في روايتها «تفصيل ثانوي»، والتي سبق وأن دخلت نسختها الإنجليزية إلى قائمة البوكر الطويلة 2021. وكما قرأنا فقد كان من المقرر أن تُمنح جائزة «ليبراتور» خلال فعاليات أكبر معرض: «فرانكفورت الدولي»، إلا أنّ التكريم تأجل، وليس لنا أن نفصل ذلك عن مجريات الأحداث في فلسطين الآن! لجنة التحكيم وصفت الرواية بأنّها «عمل فني محكم يحكي عن سطوة الحدود، وما تفعله الصراعات الدموية في البشر، إذ لفتت الكاتبة بيقظة كبيرة إلى تفاصيل ثانوية تتيحُ لنا أن ننظر إلى جراح وندوب قديمة تتوارى خلف السطح».

ربما أوجعهم مشهد الاغتصاب المدون في الرواية، لأنّه اكتسب ديناميكية فارقت ضآلة ارتباطه بالحالة الفردية للفتاة الفلسطينية، ليغدو المعنى ارتدادا لاغتصاب الأرض وبث السموم في رحمها، وذلك عندما قامت كتيبة عسكرية بالتخييم عام ١٩٤٩ في صحراء النقب. «خرج صوت رصاص كثيف»، هكذا تنتهي حياة البدو العرب الواقفين قرب النبع برفقة جِمالهم ونباح كلابهم، دون فسحة لقول شيء، كمن يهرسُ حشرة تحت كعب حذائه. يتحدث قائد الكتيبة العسكرية حديثا لا يزال ملائما بعد ما يقرب من ٧٥ عاما: «علينا ألا نتوانى عن تكريس كل ما أوتينا به من قوة وعزم في سبيل بناء هذا الشقّ من دولتنا اليافعة وحمايته والحفاظ عليه للأجيال القادمة.. لا يمكننا الوقوف ومشاهدة مساحات شاسعة من الأراضي القادرة على استيعاب الألوف من أبناء شعبنا في المنفى، تحت وطأة الإهمال»، كما لا بد من إشارة إلى ارتباط مزيف بالأرض: «مرّ بعض أجدادنا هنا منذ آلاف السنين».

بعدها يسبر نواياهم المبكرة: «وإذا كان العرب وفقا لقانون العاطفة العقيم خاصتهم يرفضون فكرة عيشنا في هذه المنطقة..علينا عندها أن نتصرف كجيش». انقسمت الرواية إلى قسمين، في القسم الأول تظهرُ الضحية المغتصبة دون اسم، دون انفعالات واضحة. يسردُ لنا الراوي العليم قصّتها نيابة عنها، فقد تقاسمت غرفة السقيفة مع الضابط الموسوس بالنظافة والورم الناتئ فوق فخذه. لفتتني تلك المفارقة الكامنة في مشاطرة الغرفة -مشاطرة الوطن- ثمّ الرعب الذي يملأ قائد الكتيبة من حشرة صغيرة، مقابل لا مبالاته بجسدٍ مُرتعش يُمعن في محو إنسانيته!

في القسم الثاني تظهر الفتاة الأخرى الباحثة من رام الله، والتي يلفتُ انتباهها ما كتبه صحفي إسرائيلي عن الحادثة، «مجموعة من الجنود يأسرون فتاة، يغتصبونها ثم يقتلونها»، ولتفصيل ثانوي، تجدُ نفسها إزاء رحلة كشف عن الحقيقة، فالفتاة المغتصبة قُتلت في يوم مولدها، لكن بعد ربع قرن من الزمان، فتشعر برغبة في ألا تبقى المغتصبة نكرة دون صوت ودون حكاية! فتغامر إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي بهوية مستعارة، وبحوزتها خريطة تصور فلسطين قبل 1948، خريطة تُسمي أسماء القرى التي دُمِرت لبناء مستوطنات جديدة: «القسطل، عين كارم، المالحة، الجورة، عنابة، أبو شوشة» أسماء تبدو مجهولة الآن وتثير إحساسا بالوحشة. تُسمي المزيد من القرى وكأنّها لا تريدها أن تُنسى، لكن في هذه الرحلة يتكثفُ غياب كل ما هو فلسطيني، فيتجلى المحو العنيف، لكن ثمّة شجرة «دوم» تنتصب بين الحقول كما تُبصر رعاة مع مواشيهم يطلون من بعيد.

تذهب الباحثة إلى المتحف، تقف أمام صور وأفلام دعائية أُنتجت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، من قبل بعض طلائعي السينما الصهيونية، تصور حياة المهاجرين الأوروبيين اليهود إلى فلسطين. فنتأكد لحظتها أنّ الحرب ليست برفع الأسلحة وحسب، وإنّما بصنع الأفكار والكلمات والأفلام، وهذا ما نعيه في الأحداث الأخيرة، تلك الهزّة العنيفة التي حرّكت الأدمغة والتصورات الجاهزة التي رسمها إعلام يقبضُ مفاصل الحقيقة ويغيبها وفق المصالح والتحيزات.

لعقود ليست بالقصيرة تسممنا بأكثر من ٢٠٠ فيلم تحدث عن النازية وهتلر ومحرقة «الهولوكوست» لجعلنا نتعاطف معهم، لكن بالمقابل كم فيلما تحدّث عن مذابح فلسطين وإباداتهم الجماعية؟

ليس هنالك ما هو خارق للعادة في التفاصيل الثانوية، ففي مكان يطغى فيه الاحتلال والقتل «يبدو الأمر وكأنّنا نقتلعُ ضمّة عشب من جذورها، فيظن البعض أنّه الخلاص النهائي، إلا أنّها تعود وتنبت عشبة من الفصيلة ذاتها من جديد وفي المكان نفسه».

هذا ما يفعله التفصيل الثانوي عندما يُعري الحقائق الكبرى والمفصلية.. وإلا ما الذي يجعلهم يرتعبون من هذه السردية؟

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى