No Image
عمان الثقافي

السينما.. ظلال تتحرك على الجدار

26 يوليو 2023
26 يوليو 2023

كنت أسمع حكايات عن السينما وأنا طفل لكني لم أذهب إليها، لأن رحلتي لها لن تتحقق إلا بشرط الدخول في عالم المراهقة والرجولة، كانت سينما وحيدة بشركة السكر بالبلدة المجاورة وكان الشباب يذهبون لها قبل الغروب عن طريق قطار قصب السكر الذي يجر وراءه عشرات العربات المحملة بعيدان القصب، وبالمصادفة يمر أمام بيتي، وهو قطار يسير لأكثر من 25 كيلومترا وسط الزراعات لنقل محصول القصب لمقر الشركة، ويعود الشباب أيضا عن طريق نفس القطار في رحلته الليلية لتوزيع العربات الفارغة على مخازن متناثرة على مسار طريقه، ليتم ملؤها في الصباح بالقصب، حيث يبدأ موسم القصب من أواخر ديسمبر وحتى مايو. رحلة الذهاب إلى تلك السينما كانت مناسبة لأجواء الشتاء والتجمع حول النار التي يشعلها خفراء أو مزارعون من أجل التدفئة، في انتظار شيء ما أو شخص عابر يتبادلون معه أطراف الحديث، يتجمع معهم الشباب وهم يرتدون «جلابيب» صوفية داكنة «ومكوية» بعناية وشاش مزهر بالأزرق الفاتح لحين وصول القطار، يركبون بجوار السائق في مقصورته الصغيرة والذي كان يرحب بهم ليكسر رحلته الطويلة المملة بالونس والصحبة والسجائر وربما أكواب الشاي التي يأخذونها من أصحاب جلسات النار. هذه الرحلة العجيبة التي كنا نحاول تجربتها ولو لمرة واحدة، كانت تواجهها العديد من العقبات والرفض القاطع ومبررات يرددها الكبار بلا ملل: منها أن الأطفال سينامون في السينما وسنضطر للعودة بهم محمولين على الأكتاف، أو أن السينما للكبار وليس للصغار، أو أن الطريق صعب وشاق على أبدانهم الطرية، بدت تلك الرحلة ولوقت طويل مثيرة للدهشة ومغرية بالتجربة ليس فقط من أجل مشاهدة الأفلام ولكن من أجل رحلة الوصول للسينما والتي يمر عليها القطار بالعديد من العزب والنجوع والزراعات، من أجل حكايات كان يرويها من يذهب لها فتزيد من الشوق إليها، لكن لم تشفع الدموع التي حاولنا سكبها في جذب تعاطف أحد لتحقيق أحلامنا أو الضغط على الكبار لكي يأخذونا معهم. لم تكن السينما محرمة أو ممقوتة لدى الأهل والمجتمع الذي نعيش فيه، لكن كان يتم النظر دائما لها بأنها شيء خاص بالكبار فقط، وليست للأطفال أو النساء، مثلها مثل تدخين السجائر.

رحلة السينما الممنوعة، سرعان ما وجدنا لها أنا وأقراني الصغار حلا، هو حل طفولي لكنه كان ممتعا وعوضنا عن مقاطعة الكبار وتحكماتهم في رغابتنا، لذا اكتشفنا السينما الخاصة بنا عن طريق الصدفة، ذات ليلة وجدنا شجرة التوت والنخيل يتحرك على جدار البيت الطيني ذي الطابقين، وجدنا الجرار الفخارية المركونة فوق السطح وبجوارها صوامع قصيرة كانت تستخدم قديما لحفظ الحبوب والغلال تتحرك أيضا بسرعة على نفس الجدار، وجدنا ظلالا وأشكالا غير واضحة تمرق أمامنا على الجدار. كانت اكتشافا جذب أنظارنا نحن الصغار واعتقدنا أنها السينما وسرعان ما ربطنا بين كشاف قطار قصب السكر وهو يتجه لتوزيع عرباته الفارغة على المخازن، والتي كانت تتم عادة بالليل، وبين سر تحرك كل تلك الظلال فوق الجدار، وكأن هذا القطار يعرف بمتعنا الصغيرة، فكان يطلق صافرته قبل وصوله بمئات الأمتار، فتسرع بالجلوس على أكوام القش ونحن ننظر فلا دهشة لجدار البيت في انتظار بدء العرض. لم يكن العرض يحدث مرة واحدة بل عدة مرات ريثما يصل لخمس أو سبع مرات في الفترة من بدء الظلام وحتى ما بعد صلاة العشاء، حركة القطارات كانت متتابعة طوال الوقت وصوت عجلاتها على القضبان الحديدية وصوت صافرتها كان موسيقى تصويرية للكثير من مشاهد طفولتنا وألعابنا الليلية.

مرت الأيام، وقدمت للقاهرة، كانت السينما أحد الطقوس التي حرصت عليها، خاصة سينمات وسط البلد، والتي كانت قريبة من سكني في شبرا مصر، وأحيانا كنا نعود سائرين على الأقدام حتى البيت خاصة لو كانت الحفلة متأخرة والنقود قليلة، كانت مترو بشارع طلعت حرب هي السينما المفضلة لي لوقت طويل، أحيانا تنشأ علاقة مع مكان ما فتصبح هناك ألفة معه ومع العاملين به، وهو ما يحدث مع المقاهي أو اختيار السير في شارع معين دون سواه، وهو ما حدث مع مترو لكنني كنت أذهب إلى أوديون أيضا أو ديانا أو ميامي، لكن ظلت مترو هي التي في القلب دائما.

عندما بدأت الكتابة لم أكن أعرف شيئا عن تقنيات السينما مثل السيناريو، وكانت علاقتي بها ما زالت مقتصرة على المشاهدة وارتياد السينمات فقط. لكن شخصا نبهني أكثر من مرة وأنا في نادي القصة بأن كتابتي قريبة من السيناريو وأنه يجب أن أهتم بتلك النقطة وأتعلم كتابة السيناريو، لم أفهم وقتها العلاقة بين كتابتي والسيناريو، وكنت أحضر كثيرا نادي سينما الأحد والأربعاء في قصر السينما بجادرن سيتي، وعندما علمت بوجود دراسة حرة في السينما سجلت اسمي على الفور، كان ذلك تقريبا في 2002، في نظري كانت من أهم الدورات التي تم إنجازها حتى الآن، كانت الدورة مقسمة على ثلاث مراحل، الأولى عامة والثانية تخصص سيناريو وإخراج ثم تصوير ثم مونتاج، وفي المرحلة الثالثة يتم الاختيار بين السيناريو أو الإخراج، ثم إنجاز مشروع التخرج، واستمرت لأكثر من ستة أشهر، حاضر في تلك الدورة مجموعة من أبرز العاملين في السينما منهم مدير التصوير سعيد شيمي والسيناريست حسين حلمي المهندس والمونتير عادل منير والمخرجان محمد النجار وهشام أبو النصر وغيرهم. لكن أهم محاضرات بالنسبة لي كانت لسعيد شيمي، والذي لم يبخل علينا بالحديث في كافة مجالات السينما من سيناريو وإخرج ومونتاج، إضافة إلى تخصصه في التصوير، لذا كانت محاضرته كاملة العدد بل ويجلس البعض بين ممرات قاعة العرض التي يلقى بها المحاضرة، وكان معظم وقت المحاضرة مخصصا للأسئلة التي نوجهها له وكان سعيدا وهو ويشرح لنا ويفسر بعض المشاهد في أفلامه خاصة مع عاطف الطيب، وربما جزء أساسي من فهمي للسينما جاء من سعيد شيمي الذي استطاع تفسير وتوصيل الكثير من المعلومات بشكل غير تقليدي، كان محبا للسينما، وظهر هذا في محاضراته التي كان ملتزما بحضورها بل كانت تمتد محاضراته لما بعد موعدها المحدد لفترات طويلة. في تلك الفترة كانت تتملكني فكرة أن الشهادة ليست مهمة وأن المهم هو العلم والمعرفة وأن إنجاز الفيلم ليس مهما ولكن المهم كتابة المشروع، أفكار رومانسية جعلتني أقيم مشروع التخرج وأتغاضى عن تنفيذه أو استلام شهادة الدراسات الحرة، حيث شعرت بأنني حققت ما أردته وعرفت أخيرا ماذا تعني «السينما» وما هو «السيناريو»، وأن اقتراب كتابتي من عالم السينما يعود إلى تأثيرات من عالم طفولتي، وأن انعكاس الأشجار والجرار والنخيل وتحركها على حائط بيتي وأنا صغير هو فيلم قصير من إخراج كشاف قطار يحب السير ليلا وسط حقول قصب السكر.

رحلة البحث عن الأفلام في القاهرة بدأت تختلف مع انتشار الكمبيوتر، حيث كنت أفك الهارد ديسك، وأتجول في أحياء مختلفة بحثا عن فيلم لم أشاهده من قبل، من المطرية إلى الهايكستب إلى جسر السويس إلى مقاه وسط البلد، بعض الرحلات تستغرق يوما كاملا في الذهاب والعودة، كنت وقتها أسكن في بولاق الدكرور، وتعتمد تلك الرحلات على فكرة المقايضة، أفلام مقابل أفلام، وأذكر رحلة غريبة لصديق، كان يقيم في حجرة يفتح بابها على سلم البيت، حجرة واحدة فقط بلا أي شباك أو منفذ تهوية، مكدسة بالكتب التي اعتلت الجدران ولم تترك سوى مساحة صغيرة في المنتصف، كانت الحجرة أشبه بفجوة في كهف، معتمة رغم وجود مصباح معلق في السقف، ولو زاد عدد الزوار عن ثلاثة سيضطر واحد للجلوس على بسطة السلم أمام باب الحجرة، دون التفات للجارات اللاتي كنا يصعدن ويهبطن دون اهتمام بما يحدث بالحجرة وكان وجودها أو وجود من بها أمر طبيعي، كان هذا الصديق يقيم في تلك الحجرة بشكل دائم ينزل فقط ليستحم في شقة والديه بالأسفل ثم يصعد مرة ثانية، حتى الطعام كان يصعد له مع أحد الأطفال، بدت لي الحجرة مقبضة، وغير مريحة، شعرت معها بالاختناق حتى نوعية الأفلام التي كان يحبها هذا الصديق تلائم جو حجرته، أفلام تجريدية بطيئة ومملة، وأحيانا تكون قاسية ومثيرة للاشمئزاز، وفوق كل ذلك غير مترجمة، لكنه كان يمدح فيها دائما ويحدثنا عن مشاهد معينة أو شكل الإضاءة في أو حركة الكاميرا في مشهد آخر، ولم أستطع حتى الآن الوصول لكيفية فهمه لأحداث الفيلم حيث إنه لا يجيد أي لغة أجنبية.

في تلك الفترة كنا نتجمع مع بعض الأصدقاء للفرجة على الأفلام من خلال جهاز الكمبيوتر، عند من تسمح لهم ظروفهم بذلك من حيث توفر المكان، وكانت شقة بولاق الدكرور مناسبة لذلك، كما شاهدت العديد من الأفلام في أستوديو صغير مكون من حجرة وحمام ومطبخ فوق سطح عمارة قريبة من شارع شامبليون بوسط البلد، استأجرها لعدة سنوات صديقي الفنان الكاريكاتير عبدالله، والمفارقة أن العمارة كانت ملكا للفنانة الراحلة ماجدة والتي كانت تحضر لزيارتها أحيانا، وهذه التجمعات كانت تعقبها مناقشات حول الفيلم، وظلت أفلام تلك المرحلة راسخة في الذاكرة حتى الآن. تلك الأفلام، وكانت تلك بداية مختلفة للتعرف على السينما، حيث امتلكنا القدرة على مشاهدة الأفلام التي نرغب في رؤيتها وليست الأفلام التي تفرض علينا في قاعات العرض، كانت هناك حرية في اختيار الفيلم، وبعضها لم نكن سنراه سوى بهذه الطريقة. كانت البداية بالأفلام الموجودة وقتها والمتوفرة عند العديد من الأشخاص، مثل أعمال المخرج السويدي إنجمار برجمان أو المخرج الألماني فاسبندر، وهذان المخرجان كان لهما تأثير واضح في بعض الكتابات والنصوص خلال تلك الفترة، لكن هذا الطريق سلمني إلى مخرجين آخرين مثل الإيطالي تورناتوري أو الصربي إمير كوستاريتسا أو اليوناني ثيو أنجيلوبوليس، لتبدأ بعدها مرحلة السينما الإيرانية بداية من أعمال كياروستامي ومخملباف وبناهي، ثم الجيل التالي فرهادي ورسولوف وجوبادي وغيرهم.

ثلاثة مخرجين اعتبرتهم من اكتشافي الخاص، لم يدلني أحد عليهم، لذا ظلوا لفترة طويلة معي، وهم تورناتوري وكوستاريتسا وأنجيلوبوليس. كان تورناتوري إنسانيا أكثر في أفلامه كما أن شخصياته كانت تمتلك الأحلام التي نسعى وراءها مثل شخصية سلفاتور في «سينما بارديسو الجديدة» وحبه لمشاهدة الأفلام وهروبه من المنزل لأجلها، وعلاقته بالفريدو المسؤول عن عرض الأفلام، كانت شخصيات تورناتوري قريبة من الشخصيات التي تعيش حولنا، أناس بسطاء يتأرجحون بين خطى الفقر والستر، لصوص ومحتالون لديهم ضمائر تجعلهم يتعاطفون مع أمثالهم من الفقراء مثل فيلم (صانع النجوم)، أناس يتمسكون بأحلامهم، يحاولون الابتسام في وجه صعوبات الحياة، حتى الشمس عنده في أفلامه كانت تشبه شمس قريتي، قريبة من الناس، تلفحهم وتترك بصمتها على جلدهم، شمس قوية يصعب مواجهتها بالعين المجردة ويبدو أنها تسهم في صنع شخصيات أفلامه أو هي أحد أبطاله، شخصيات تورناتوري يتكلمون مع بعضهم بصوت عال وقادرون على السخرية حتى من أنفسهم، ربما الفرق الوحيد بين قريتي وأماكن تورناتوري هو أن أماكنه كانت دائما قاحلة وخالية من الأشجار، شوارع جرداء ذات أرضيات صخرية وجبال تجثم على البلدة، ولو وجدت بها أشجار ستكون قليلة ووحيدة، على عكس قريتنا التي لديها شمسها أيضا لكنها تحتوي على نخل وأشجار وترع وزراعات. لذا كان أبطال تورناتوري قريبين مني ربما لأن هناك ثقافة واحدة مشتركة وهي ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، وذلك قبل أن ينتقل تورناتوري لصنع أفلام ناطقة بالإنجليزية ويبتعد عن بيئته المفضلة جزيرة صقلية، إلى مدن أوروبية في أفلامه الأخيرة مثل «أفضل عرض».

أسلوب تورناتوري الواقعي كان مختلفا عن كوستاريستا، الذي يميل للغرائبية والواقعية السحرية في حكاياته عن غجر يوغسلافيا وبشخصياته التي تبدو خاصة به هو فقط، ولن تجدها عند مخرج آخر، وكأنهم شخصياته قادمة من كوكب آخر، رجال بأسنان ذهبية يعيشون وسط الدجاج والحيوانات، حكايات وحيل بسيطة لتوفير مصدر رزق أو لاقتناص لحظة سعادة وسط حروب لا نعرف من الذي بدأها ومن يحارب من؟ يصنع كوستاريتسا تناغما بين مكونات الطبيعة بما تشمله من بشر وحيوانات ونباتات، في «قط أسود قط أبيض - زمن الغجر – تحت الأرض» وغيرها، قصص إنسانية تذكرنا بالحكايات الشعبية القديمة، تلخص فلسفة المهمشين من فلاحين وغجر وسائقي قطارات ولصوص وعاهرات. أما أنجيلوبوليس فهو يقدم سينما أخرى، سينما لن تشاهدها إلا في مزاج معين مؤهلا لها، حيث تقترب السينما عنده من الشعر في تكوين كادراته أو توزيع الممثلين بالمشهد، بلقطاته الطويلة الصامتة التي تتيح للعين تأمل المشهد والتشبع به لدرجة قد تصل للملل، لكن تظل تلك اللقطات مدهشة وطازجة ومختلفة، تشبه لوحات فنية أو صورا فوتوغرافية، ظهر ذلك في «الأبدية ويوم آخر - قبضة عوليس - ثلاثية المرج الباكي»، دائما أبطال أنجيلوبوليس مهمومين بفكرة الهوية والوطن والحدود والصراعات العسكرية والتنقل من مكان لآخر، دائما أبطاله يحملون حقائب سفر في أيديهم وكأنهم عابرون في هذا العالم، يطرحون أسئلة وجودية لا إجابة لها.

ومثل حكايات الجدات التي تحفز الخيال وتمنح الأطفال أملا في عالم أفضل، تعد السينما بالنسبة لي أحد محفزات الكتابة والتفكير مثلها مثل قراءة كتاب ممتع، فيمكن لمشهد بسيط مجرد مشهد ربما يستغرق ثوان معدودة على الشاشة حتى لو كان صامتا، أن ينير تلك النقطة الغامضة في الدماغ بفكرة نص، لا علاقة له بما تمت رؤيته، لكن ما حدث هو تحفيز توالي الأفكار وربما انبثقت لحظتها جملة أو سطر أو فقرة كاملة، وهو نفس ما تفعله الكتب معي، وليس شرطا أن تكون كتبا إبداعية، فيمكن لكتب التاريخ أو الجغرافيا أن تفعل نفس الشيء. لذا سأضبط نفسي وأنا أحس بالعجز -خلال الكتابة- عند محاولة وصف مشهد أريده كما أتخيله في فيلم على الشاشة، لكن الكلمات تبدو لي غير قادرة على امتلاك الصورة كما أرغبها، وكأن قاموسي اللغوي فقير ومحدود، وكأن جملتي تفتقد للخفة والموسيقى، وكأن فقرتي مجرد قطع من الصخور الخشنة بلا منظر ولا معنى. وأحسد في تلك اللحظة تحرك الأشجار والنخيل والظلال والعالم على جدار طيني في قرية صغيرة منسية، بسلاسة ومرونة تفتقدها الكلمات، وفي كل مرة تحمل معها نفس الدهشة الأولى، أحسد -لحظتها- قطارا صغيرا يجر وراءه عربات قصب السكر ويسلي وحدته الليلية بصنع أفلام قصيرة على جدران البيوت.