سوق العمل: مفاهيم جديدة
قبل حوالي أكثر من 25 عاما -على المستوى المحلي على أقل تقدير- كان المستقبل يعني أن تتخرج في الجامعة وتلتحق بإحدى الوظائف المتوفرة في مجالات التربية والصحة والهندسة -هذه المجالات كانت على قمة الهرم، ويكاد الشباب لا يدركون وقتها أن ثمة تخصصات علمية أخرى. لن أتحدث هنا عن الطفرة التي طرأت في تنوع مجالات الدراسة والتخصص - فهي في نظري ما زالت محدودة وأقل مما كان يمكن أن يحدث محليا أقصد- وإنما أتحدث عن التغير الذي طرأ في أذهان الشباب عن ماهية العمل وفرصه، مجالاته ومكانه.
فهذا الحال الذي حافظ على شكل تقليدي بطيء التغير إلى حد كبير لم يستطع أن يقاوم حالات تحول تفرضها سياقات متباينة على مستوى تكوين النشء تربويا وفكريا واجتماعيا. كما أنه محكوم بخصائص يفرضها عليه نمط تفكير وتخطيط ووضع اقتصادي واجتماعي محلي، هو كذلك بطبيعة الحال عرضة لكل ما يحدث في المنظومة العالمية حوله.
ربما كانت أولى إرهاصات التغيير هي في تكون منحى لتوسعة فرص العمل خارج محدودية التخصص الدقيق ففي بعض الحالات لا تكون هناك (وظيفة) محددة لشغلها وإنما فرص عمل تستند إلى بعض معارف التخصص الأمر الذي توسع مع الوقت لنجد أن الشباب مجبرا كان أو مخيرا بدأ يفكر، بأنه -ربما- ليست الدراسة التي تفتح له باب الرزق وإنما الموهبة أو المهارة أو الاهتمام هو ما يمكن أن يدفع به لسلك طرق جديدة، هذا النمط في التفكير ليس معزولا عن تأثير تقلص فرص العمل (الوظيفة) المربحة ماديا بشكل مرضٍ. فمن الواضح أن العمل في سلك القطاعات الحكومية -التي كانت المقصد سابقا- لم يعد متوفرا أو مغريا. والقطاع الخاص - وبتوسع بسيط تنضوي تحت تعريفه الشركات المملوكة للدولة والشركات العاملة في قطاعي النفط والغاز بمختلف مجالاتهما -وإن بدا أن فرص العمل فيه واعدة في بعض المجالات على أقل تقدير إلا أنه ينمو ببطء لا يتوافق مع اطراد وتنامي القوى العاملة عددا، وعليه كان لا بد من ابتكار حلول. أضف لذلك التغيير في نمط المعيشة ومتطلبات الناس الجديدة التي يفرضها عليهم نمط العصر الذي يعيشون فيه.
يبدو أنه كلما كان الدخل على قدر تلبية الاحتياجات الأساسية؛ اتجه الناس للبحث عن مصادر الترفيه وأن يعيشوا كل يوم بيومه. وأصبحت في قائمة احتياجاتهم التي من الجيد أن تتوفر في السوق ويتوفر من ينتجها ويقدمها ويبيعها مواد لم تكن من الأساسيات في يوم من الأيام. المقاهي ومحال التجميل وبائعو المهارات والوهم أحيانا هم أكثر جاذبية لدى الأغلب كما يبدو من الادخار للمستقبل في مال لا يبدو أنه سيربو كثيرا إذا ما تم الادخار منه.
واستفاد الشباب جدا من الازدهار المعرفي وسهولة التواصل مع العالم والاطلاع على الخبرات والتجارب ولو بالمشاهدة، فوسائل التواصل الاجتماعي واتصال العالم بشبكة معلومات يعرض فيها كل شي تقريبا أتاحت لهم فرصا للتعلم والتقليد والتجريب والانتشار.
من المتغيرات الأخرى التي بدأت تلاحظ مؤخرا هو التوسع في مكان العمل؛ فلم يعد البحث محصورا في حدود الوطن (والإنسان وين ما رزق ما وين ما خلق). طبعا هناك الشكل الجديد في العمل عن بعد (أون لاين) والذي يبدو أنه نمط سيتنامى مع الوقت. لكن في حالات كثيرة نجد أن الشباب يفكر ربما أحيانا وهو على مقعد الدراسة في فرص عمل ولو لبعض الوقت حيث يمكن أن تتوفر وإن كانت خارج الوطن وأصبح أكثر جاهزية لتقبل هذه الفكرة والسعي وراءها.
مؤخرا كذلك بدأت تنتشر حالة من صغر سن الانضمام لسوق العمل. سابقا كان العمل يأتي بعد التخرج من الجامعة لأن العمل يعني وظيفة. ولكن في السنوات الأخيرة وجدنا أن كثيرا من الشباب بدأ يجرب فكرة العمل قبل أن ينهي دراسته فهناك من يشتغل في البيع والشراء، وفي التدريب، وغيرها من المجالات خصوصا ما توفره مجالات التواصل الاجتماعي التي يكاد جل الفضل يعزى لها في هذا الشأن.
الأمر لم يعد يقتصر على طلبة الجامعة فصرنا نقابل طلابا صغارا في المرحلة الثانوية تستهويهم فكرة الحصول على دخل من خلال مهارة ما يستثمرونها. وهنا التغير الأوضح سواء سعى الشباب الصغار جدا للبحث عن مصدر رزق أو لا، فهم في المجمل أصبحوا مشغولين بالفكرة، ما فرص العمل المتوفرة مستقبلا؟ الأمر الذي لم يكن يشغل الأجيال السابقة.
وبقدر ما يبدو الحديث مبشرا ونحن نتصور هذا المنهج الابتكاري في التفكير وتوفر حس المغامرة والتجريب وأسلوب التفكير العملي، وبقدر ما يبدو ملائما أن يحاول الناس التغلب على صعوبات توفر فرص العمل الجيدة وتحسين مصدر دخلهم لا بد من الإشارة إلى أن إمكانية النجاح أو حتى توفر مثل هذه الفرص ليس أمرا متاحا بحيث يمكن الاعتماد عليه. ناهيك أن معظم هذه الأعمال التي نتحدث عنها تندرج تحت مظلة الأعمال التجارية وبحاجة للتأكد من قانونيتها وجودتها كما أن نجاحها على المدى الطويل محكوم بالتطور الاقتصادي في البلد وتوفر المال الكافي الذي يمكن أن يدور في مجالات التجارة المختلفة.
تاليا؛ مع أنه من الجيد أن يتحصل الشباب على خبرات من الخارج في العمل يمكن أن تفيد البلد لاحقا فإن المحذور هو ألا يتنامى الوضع الاقتصادي في البلد بالسرعة، وبالمدى المطلوب بحيث تتسع قاعدة تصدير الطاقات إلى الخارج عوضا عن جذبها للوطن. إلى الآن هي حالات فردية تسعى للمغامرة والتجريب وتحسين الفرص، وإلى أين ستؤول؟ هذا محكوم بالكامل بما سيكون عليه المستقبل اقتصاديا.
ثم نعود إلى النقطة الأساسية التي ابتدأنا منها ونحن نتحدث عن التأهيل المعرفي (الجامعي) وفرص العمل المتوفرة. سؤال لا بد من أن يطرح: لِمَ ولفترة طويلة جدا من الزمن لم تكن هناك حاجة حقيقية لمختلف التخصصات؟ الحقيقة أن فرص العمل ظلت محتكرة لتخصصات بعينها أو في وظائف تقليدية جدا، وبدا أن علوما من مثل الإنسانيات: علم الاجتماع، والرياضة، والفنون وحتى في العلوم الأخرى: الزراعة، وعلوم الأرض، والبيئة حتى علوم الحاسب الآلي تراوح مكانها ولا ينتج مع مرور الوقت ونمو البلد مجالات عمل حقيقية ووظائف جديدة بالقدر الكافي، تضاف لما كان موجودا سابقا، جديدة أقصد في نوعيتها. لا يبدو أن هناك تناسبا بين ما يفترض توفره من فرص في بلد يتطور ليصبح بلدا حديثا معاصرا، الأمر الذي يستلزم استحداثا تلقائيا لوظائف جديدة ومختلفة وبين عدد السكان ونسبة القوى العاملة فيها. ثمة ما هو مفقود وبحاجة للبحث والتقييم خصوصا ونحن نتحدث عن طفرة جديدة؛ والتفكير في مسارات تأهيل مختلفة تناسب المستقبل: الثورة الصناعية الجديدة، وتحول استخدامات الطاقة، والذكاء الصناعي، واختلاف حركة الأيدي العاملة بين الدول وغيرها من المتغيرات العالمية، وصعود قوى اقتصادية جديدة واختلاف أنماط الاقتصاد القادم حتى على مستوى المنطقة العربية.
التغيرات التي أشرت إليها في بداية المقال هي حالات رد الفعل من مجتمع ينمو تلقائيا ويتكيف مع الأوضاع التي يجد نفسه محاطا بها. هي سمات هامشية من الضرورة أن تلاحظ وتحسب وتفهم، ولكن يبقى المؤثر والمحدد الأكبر في توفر فرص العمل ونوعيتها هو خطط التطوير الاقتصادي وارتباط ذلك بمنظومة التعليم.