تفاعلاتنا .. بين حقيقة مطلقة وأخرى نسبية
يحتدم النقاش؛ غالبا؛ عند إثارة موضوع الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، مع أن بينهما بونا واسعا في المفهوم وفي التطبيق، ولأن الناس يتفاوتون في الإدراك، فمنها يأتي النقاش، ويتفاعل الحوار، ولأن حقيقة (المطلق/ النسبي) فارضة نفسها على كل اشتغالاتنا في الحياة، حيث لا يخلوان من موضوع الارتباط بينهما، فحيثما وجد المطلق، وجد في المقابل النسبي، فلو قال لك فلان من الناس إنه لا يأكل السمك، فهذه مسألة مطلقة عنده لأسباب كثيرة يعرفها هو، وقد يخمنها الآخر على أن أكله للسمك قد يثير عنده الحساسية، أو قد يتضرر صحيا، أو أنه لا يريد أن يرى السمك من أساسه، بينما أكل السمك عندك أنت مسألة نسبية؛ فهناك أنواع كثيرة من السمك؛ إن لم يعجبك نوع معين منه، فهناك أنواع أخرى، فليس عندك مشكلة إطلاقا، ولكنكما قد تلتقيان في نقطة واحدة لتقليل مسافة الاختلاف بينكما، وهي أن هناك بدائل كثيرة متاحة لهذا الفرد تغنيه عن أكل السمك، وهي في الوقت نفسه متاحة لديك، لتنويع الاختيارات في المأكولات، ومنها كذلك، لو أن أحدا ما ناصبك العداء في مواقف مختلفة، وهو عداء لم يقحمه إلى الإساءة إليك إساءة مباشرة ينتج عنها ضرر ما، فهنا لن يكون عندك مبرر مطلق لأن تعتدي عليه بصورة مباشرة في كل الأحوال، حيث سيرتبط هذا الاعتداء؛ إن حصل؛ على مواقف نسبية، قد تحدث، وقد لا تحدث، وقد ينتهي هذا العداء نهائيا دون أن يدخل أحدكما في عراك مع الآخر، ومثال ثالث؛ قد تستهجن أن يقول لك فلان من الناس إنه يستطيع أن يقطع مسافة (100 كم) سيرا على الأقدام دون توقف، وترى في نفسك أن هذه المسافة حقيقة مطلقة لا يمكن أن يقطعها شخص دون توقف، وفي المقابل «النسبي» أن ذلك يحدث، وليس من المستحيلات، ففي تدريبات الجنود، يكون هذا الفعل من الممارسات شبه اليومية، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، وفي هذه الصورة قد يصبح المطلق نسبيا، وقد يصبح النسبي مطلقا، فالمرأة «البائن» بطلقاتها الـ (3) يكون رجوعها إلى مطلقها في حكم المطلق، ولكن بعد زواجها من آخر، وطلاقها منه، تنتقل من الحكم المطلق إلى الحكم النسبي، حيث يمكن لمطلقها الأول أن يعقد عليها من جديد، بزواج جديد، وبشروط جديدة.
ومعنى هذا أن مسألة الخلاف قائمة؛ في كل مشاريع الحياة؛ على هذين الركنين (المطلق والنسبي) وما الوصول إلى حالات الاحتقان إلا لأن أحد الطرفين لا يرى في الآخر أحقيته في الاختيار، فإما نسبي بالكامل، وإما مطلق بالكامل، وهذا يخالف قانون الحياة التي يعيشها البشر، الذين تختلف أفكارهم، وتختلف رؤاهم، وتختلف مداركهم واستيعابهم وقدراتهم، نظرا لاختلاف تنشئتهم الاجتماعية من ناحية، ونظرا لاختلاف تكويناتهم الفطرية البيولوجية من ناحية ثانية، ونظرا إلى قدرة كل فرد على استيعاب ما يدور حوله، وما يتلقاه من مغذيات معرفية، وتجارب عملية من ناحية ثالثة، وفي كلا الحالتين يجب أن تبقى هذه الصورة في المجتمع قائمة، ومتفاعلة، وديناميكية، حيث مناخات الصالح العام فيها، فالسكون؛ كما هو معلوم بالضرورة؛ للأموات، والشعوب لا يمكن أن تكون خاملة إلى درجة التوازن، فالتوازن أيضا يميل إلى المطلق؛ حيث لا يقبل التغيير، وإنما؛ يفترض؛ أن تكون حالة الكفتين قلقتين نزولا وارتفاعا، حتى تتمخض عن نتائج معبرة عن واقع فيه من النشاط، والحركة، والتفاعل، مما يدفع إلى اكتساب الكثير من النتائج المهمة لحياة الناس، ولعل لنا أن نأخذ من صورة الكون مقطعا محوريا لتعزيز النقاش وواقعيته وصولا إلى استيعاب أكبر، فطلوع الشمس من المشرق حقيقة مطلقة لا جدال فيها وقد وثق بنص القرآن الكريم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» -الآية (258) من سورة البقرة- ولكن تبقى نسبية سطوع نورها على الأرض كلها مسألة نسبية، فهناك أجزاء كثيرة لا تطلع عليها الشمس في الوقت نفسه؛ إلا بعد دورة زمنية؛ ليست محددة؛ حيث إنها تزيد وتنقص بناء على حركة الأرض؛ ولذلك فهناك أقوام تعج حركتهم في الحياة؛ ذهابا وإيابا؛ في جزء من الكرة الأرضية، بينما آخرون يغطون في سبات عميق، ومن كانوا في ليل دامس قبل ساعات، يصبحون في نهار مشرق بعد ساعات أخرى، وهكذا تتوالى الأيام والسنون، وفق قدرة إلهية عجيبة في تسيير هذا الكون بكل ما يحمله، فهذا المقطع الكوني الرهيب، يمكن مناظرته بصور كثيرة في حياتنا اليومية، ومعنى ذلك أن أمام هذا الإنسان مشروع حياة كبير، وممتد، وضخم، ومعقد، وبوجود كل هذه المكونات، يتاح للإنسان أن يكون جزءا مهما في حركة الكون، وفي تغيير مسارات كثيرة في الحياة، وهذا الأمر لن يتأتى إلا إذا استشعر الإنسان نفسه هذه المسؤولية، وأنه بإمكانه أن يؤدي دورا محوريا في هذا المشروع، وهذا الدور المحوري يستلزم الكثير من المؤهلات، ومن القناعات، ومن تهيئة البيئات الضابطة لحركته الأخلاقية؛ بالدرجة الأساس؛ ولذلك عندما تجاوز الإنسان في مختلف ممارساته كل هذه المحددات كانت النتائج كارثية، وتلقى مأزقها الإنسان نفسه، فبدلا من العمل على إعمار الكون بما فيه، كان معول هدم، وما هذه الحروب التي أنتجت المهالك والتشتت والعزلة، وانتشار الفقر والظلم، والمعاناة إلا نتائج لانفراط العقد الأخلاقي والقيمي من المشروع الإنساني الكبير، كل ذلك لأن هناك طرفي في معادلة الحياة، وكل طرف ينتصر لذاته، ويرى أحقيته في كل ما هو متاح، ويسعى إلى ما هو غير متاح، ومتى استحكم قوته على المتاح، جرده من كل الفراغات النسبية التي تتيح للآخرين لأن يكون لهم جزء من هذا المتاح، واستأسد عليه، ولو أدى ذلك إلى حتفه، والحياة مليئة بالأمثلة على ذلك، بينما لو ارتضى بجزء مما هو متاح، وترك للآخرين حريتهم التي تكفلها لهم إنسانيتهم؛ قبل كل تشريع؛ لما وصلت الصور القاتمة إلى حيوات البشرية على امتداد التاريخ الإنساني.
يشير المطلق -في مفهوم آخر- إلى المثاليات، أو الغايات النهائية، وهذه مرحلة ليس من اليسير الوصول إليها في ظل حياة قابلة للتغير، والتبدل في كل لحظة زمنية حادثة، بينما يذهب النسبي إلى تهيئة الأوضاع والأمور حتى تبلغ كمالاتها المرجوة بصورة أقل حدة، وتنطع، وفق مجريات الكون المعتادة؛ حيث يأخذ كل ذي حق حقه دون الإساءة إلى الآخر، وتبقى حالات التمايز بين المجموعة الإنسانية الواحدة من خلال الفروقات والقدرات الشخصية المثالية (الذكاء، الانتباه، الفطنة، سرعة البديهة، الهمة العالية، الاستقرار النفسي، الرضا، القناعة) عندها يمكن أن يتسامى الحوار والتعاطي مع الآخر؛ الذي ينقي مجمل الأفكار والرؤى من الشوائب، لكي تبلغ الكمال (بلوغا نسبيا) وهذه تحتاج إلى أرضية آمنة للحوار، وهذا الحوار لن ينجح إلا إذا وجد أرضية خصبة لدى النفوس التي لا تنتصر إلى المطلق فقط، بقدر إيمانها بأهمية النسبية في كل شيء، إلا فيما ورد فيه نص شرعي من الكتاب والسنة، وهذا الجانب وإن يكن فيه مدخلا للحوار لكنه يحتاج إلى شروط قاسية من الفهم والمعرفة لمن يريد أن يخوض في جوانبه الخطيرة، ولكن ما هو متاح أمام العامة من الناس كثير جدا، يمكن أن يقولون فيه قولتهم، بناء على معارفهم، ومكتسباتهم من الحياة، والإنسان؛ بفطرته؛ ولَّادٌ للمعرفة، وله أن يبسط معرفته بكل أريحية، فلا حكر لمعرفة لأشخاص دون آخرين إلا بقياس الدرجة العلمية التي يكون عليها حامل المعرفة، وحتى هذا المقياس يخضع للمسألة النسبية، من حيث التفاوت في الإدراك، وفي الاستنباط، وفي القياس، وكما لا يجوز التنطع في الدين، كذلك لا يجوز التنطع في شؤون الحياة كلها، وهذا من فضل الله على الناس.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني