روزنامة التفكير: مقال عبثي «لا يعوّل عليه»
قد تقترب منا المناسبات وقد نقترب نحن منها، قد يختارها لنا الآخرون وقد تكون خاضعة لاختياراتنا، فتحددت الأيام العالمية، إلا أن لنا مناسباتنا الخاصة، وبعودة إلى مقال سابق «كلها الأطفال بل أكثر»، وعن أهمية أن تأخذ الرحلة الإبداعية طابع اللعب والاستمتاع بالرحلة، ومن قبيل ذلك اللهو، هذا المقال بمناسبة اقتراب فرحة العيد من قلوبنا قبل موعده بأيام، كتبته كما أحببته منذ البداية بنكهة فكاهية لا تخلو من الفكرة والمعرفة، فكيف يكون ذلك الفكر الممتزج بالطابع الفكاهي الساخر؟
لتنطلق من تلك الأمثال والحكم أهزوجتنا الفكرية، التي نترنّم بها في سطور حياتنا، فقد جُبِل الإنسان على ترديد تلك الأمثال والحكم المتوارثة، وكان بترديده لها دور في انتقاله إلى صفة القول المأثور، الذي اختص بعضهم في تجميعها وحفظها من الزوال، متناسين بذلك أن تلك الأقوال مهما بدا بريق صدقها لامعا صقيلا، إلا أنها لا تخلو من حقيقة أنها قيلت في حادثة ما تختص بها، وإن وافقتها الكثير من القصص إلا أنها قد لا تنطبق على الجميع، لنعممها ونكرّرها كآية سماوية لا خطأ فيها ولا نقصان، بل إن لسان الحال يقول « لكل مقام مقال».
ليست المشكلة في تكرار القول فنزيّن به أحاديثنا، بل حين نسترشد به كنجمة في السماء، نعتدّ بها ونستدل بها لاستكشاف الطريق، وليست المشكلة كون ذلك القول يأخذ حيّزا من ذاكرتنا فيزاحم ما سواها من المعرفة، بل حين نقحمه في أحكامنا على الآخرين فنُسقط عليهم القول، فيتحقق الظلم لأن للحادثة اعتبارات أخرى، وليست المشكلة أن لتلك الأقوال ما يناقضها من أقوال مأثورة أخرى وأمثال، فيصبح للمعنى ضدان، إلا أن المشكلة تكمن كون المعنى في حدّ ذاته لا وجود له من الأساس في حضرة الموقف والحادثة.
وكذكرى موافقة للمقال، فإن مقالا كتبته لعيد العام الفائت كان أيضا يأخذ طابع لهو الأطفال، بل أكثر، وكان بعنوان « لنفرض جدلا»، ليعمّ الحديث ويكثر الكلام بين الأهل، وليكون لي حديثي الخاص مع أقراني لأقول لهم، لنفرض مثلا أن يثبت لنا عكس تلك المقولات من الأمثال المتوارثة؟
تلك الأمثال المعنيّة بالفكر والفكرة، والتي تمسك بها فتحصرها ما بين قوسي المثل والقول المأثور، متناسية أمر التفاوت بين الأحداث والمنظور، وكجملة متناقضات تضمنتها تلك الحكم والأمثال والأقوال المأثورة المتداولة عن المفكرين والفلاسفة، نجد ما يثبت أن الموقف وحده والحادثة وحدها كفيلان بإطلاق الأحكام عليها، لا الرجوع إلى تلك الأقوال التي كانت صحيحة ضمن نطاق زمنها الذي ولّى وانقضى.
نذكر تداول الأفكار كفكرة قابلة للقياس الزمني في قولين يناقض كل منهما الآخر..
«الأفكار لديها تاريخ صلاحيّة قصير جدا، عليك أن تتصرّف بسرعة وتشتغل على الفكرة قبل أن تنتهي صلاحيتها»، كما يقول جون سي ماكسويل
ليناقضه القول بعد ذلك جون كينيدي فيقول:
«قد يموت شخص، وقد تنهض الأمم أو تتقوّض، لكن الفكرة تستمر في الحياة، فالأفكار لا تنتهي صلاحيّتها».
وإن كان الشكّ هو عتبة باب اليقين؛ إلا أنه يظل له نقيض على الدوام، فيقول دنيس ديدرو:
«الشك هو الخطوة الأولى على طريق الفلسفة واليقين»
ليناقضه غوته فيقول:
«أعظم صراع في البشرية هو صراع الشك باليقين».
ورغم ما قالته مدام دودويفان عن الخطوة الأولى تتغنى بها:
« الخطوة الأولى هي المعوّل عليها».
إلا أنه جاءها الردّ المناقض لذلك، ليكون هناك من يستاء من تلك الخطوة الأولى:
«آفة ثورتنا عدم التفكير أبعد من الخطوة الأولى»
وحين انتشر ذلك القول: «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة»
ليطلق أحدهم ما يصدم تلك الحقيقة:
«من أخبرك أن رحلتك كانت ألف ميل».
لأستلهم من تلك المتناقضات فكرة لمقال عبثي غايته نقض القول، وفكّ أسره من براثن التنصيص، والقول المأثور والحكمة والمقال، ولا يأتي التناقض إلا عبر نفي الشيء، وأنطلق بذلك من قول تيريزا الأم «يجب أن لا نخاف أبدًا من أكون علامة تناقض بالنسبة للعالم»، لأجد بعد ذلك ما يناقضه أيضا في قول لايبنز «مبدأ التناقض مبدأ العلّة الكافية»، ليكون المقال بذلك جملة من المتناقضات، التي تكون الحقيقة فيها عائمة ما بين قطبيها وما بين نقيضين، لأقول بعدها وعلى نحو عبثي جدا جدا لا يعوّل عليه: «اللي فات ما مات»، «إذا فات الفوت نجيبه بالصوت»، «وعصفور باليد لا يُغني عن العشرة في الشجرة»، ومن اسأل مجرب ولا تسأل خبير، أقول «اسأل المجرّب والخبير».
ذلك التناقض الذي ينشأ ويعود أصله إلى كون الحقيقة تحمل أوجها عديدة، إلى الحدّ الذي لا يؤثر فيه على مصداقيتها، بحيث إن كل وجه من تلك الأوجه تحديدا يدير رأسه إلى الشخص وحياته ورحلته وتلك الحكاية بالذات، التي ينطلي عليها ذلك الوجه من الحقيقة، حيث إن الإنسان على الدوام هو معيار كل شيء، وذلك التناقض ما هو إلا محض افتراض لوجه الحقيقة الآخر، وعن تلك الحقائق التي تملأ الكون إلى الحدّ الذي لا تشعر به، فيكون بذلك الافتراض والتناقض أكثر من تلك الحقيقة بكثير، وعلى ما يبدو فإن ذلك التناقض يعبّر عن نفسه؛ باعتباره مبدأ كونيا للحصول على الحقيقة المطلقة، فلا وجود للمطلق، حيث ينعدم الاتزان، ومع وجود كفّة ترجح دون أخرى، وكما يقول بول آردن في عنوان كتابه «كيفما فكرت فكّر بالعكس».
وكفكرة أشبه بلهو الأطفال بل أكثر نفرض فيها جدلا جملة المتناقضات، (الموت والحياة، الجوع والشبع، الحب والكره، القرب والبعد، الكثرة والندرة)، تعبّر في معناها العميق، والعميق جدا عن ذات الشيء في معناه الجوهري المطلق، فتتساوى بذلك المتناقضات لتعبّر عن الحقيقة المطلقة، فيكون في الموت حياة، وللجوع شبع خفي، وخلف الحب كره دفين ناتج عن شعورك بالأمر، والقرب قد يحمل في باطنه بعدا شاسعا، وقد تجعل الندرة من الشيء يتّصف بالندرة والكثرة تنفي وجود الشيء، وبذلك نقول أنّى وُجدت المتناقضات، وجدت الحقيقة بمعناها المطلق.
ليكون للقارئ خيار مفتوح باتساع المدى، ليلبّي دعوة نداء لهو الطفولة، حيث الإنسان بطبعه طفل كبير، ليعبث بجملة من الحقائق المحاط به، محاولا عبثا وعلى نحو لا يعوّل عليه أن يناقضها بحقائق أخرى، ليعرف أن الكون لا مسار واحد له، بل اتساع كوني يشمل كل الاتجاهات والاتجاهات الفرعية، لتكون هناك نظرة خاصة دوما لكل تلك المبادئ.
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية