الوثائق وكتابة التاريخ
تعد الوثائق المصدر الأول للكتابة التاريخية، لذا قال المؤرخون: «لا تاريخ بدون وثائق». ومنذ عصر النهضة الأوروبية الحديثة كانت الوثائق موضع عناية الدول الأوروبية، ووصل الاهتمام بها لدرجة أنها أصبحت أحد المكونات الأساسية للشخصية القومية، وفي سياق العناية بالأدب والفكر والفن كانت الوثائق إحدى القضايا المهمة التي اعتمد عليها المؤرخون الأوروبيون، ليس في مجال الكتابة التاريخية فقط، وإنما في كل فنون المعرفة، بما في ذلك الرسم والنحت والفلسفة، كل هذه المعارف قد استمدت أفكارها من الوثائق.
لم تلتفت أقطارنا العربية لهذا الرصيد الضخم من الخبرة الإنسانية إلا في فترة متأخرة من التاريخ المعاصر، لأسباب عديدة في مقدمتها افتقاد التعليم والظروف العامة التي أوقعت بلادنا العربية فريسة للاحتلال الأجنبي، وهو ما يفسر الاعتماد على الوثائق الأجنبية في كتابة تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم لا نجد دراسة تاريخية جادة لم تعتمد على الوثائق الأجنبية في غيبة الوثائق العربية.
في بداية القرن التاسع عشر ( ١٨٢٨) استطاعت مصر وبخبرة فرنسية خالصة أن تؤسس (الدفتر خانة المصرية) وقد اختار لها الفرنسيون مكانًا مميزًا (القلعة) باعتبارها مكانًا مرتفعا بعيدًا عن الرطوبة والتلوث ووضعت لها لائحة فنية وإدارية دقيقة، جميعها تتناول طرق حفظ الوثائق وما يحفظ منها حفظًا دائما وما يتم التخلص منه بعد عدة سنوات، والقواعد القانونية الصارمة التي تحدد مهمة شاغلي الوظائف ممن يعملون بالدفتر خانة، والتدرج في العقاب لمن يخطئون أو يتعمدون ضياع بعض الوثائق، تصل العقوبة أحيانا لدرجة النفي إلى الواحات لكل من يزور أو يتعمد ضياع بعض الوثائق؛ لذا حفظت مصر وثائقها بشكل دقيق، وخصوصًا سجلات المحاكم الشرعية التي يرجع تاريخ بعضها إلى العصر الفاطمي، وهي توثق لكل العمليات الحياتية بيعا وشراء وزواجا... إلى آخره. وهذه السجلات تعد ذات أهمية عالية لأنها توثق لكل أنشطة الحياة وقد اعتمد عليها الباحثون وهم يؤرخون لتاريخ الاقتصاد أو القضاء أو الحياة الاجتماعية، بما في ذلك الضوابط الإدارية التي تنظم كل شئون الحياة خلال 5 عقود، وقد جُمعت سجلات هذه الوثائق من كافة المحاكم الشرعية في أنحاء القطر المصري، إلا أن مشكلة كبيرة قد حدثت بعد إنشاء دار الوثائق القومية ١٩٥٤م، والإبقاء على الدفتر خانة تابعة لوزارة المالية حتى اليوم، وقد احتفظت بالكثير من الوثائق، بعد أن نقلت مجموعات متكاملة إلى دار الوثائق القومية.
أعتقد أن كثيرًا من أقطارنا العربية قد أدركت أهمية الوثائق خلال حقبة متأخرة من القرن العشرين، وأُنشئت أرشيفات بعضها على درجة عالية من الدقة في محاولة لاستعاضة ما فاتها من فرص حفاظا على وثائقها وذاكرتها الوطنية، وعملت بعض الدول العربية على اقتناء نسخ مصورة ورقيًا أو إلكترونيًا من الأرشيفات الأجنبية، وخصوصًا البريطانية والفرنسية والأمريكية، ووصل الحرص ببعض أقطارنا العربية كالجزائر إلى المطالبة بأصول الوثائق الجزائرية المحفوظة في الأرشيف الفرنسي، بحكم أن فرنسا كانت تدير هذا القطر العربي الشقيق، لما يقرب من مائة وعشرين عامًا، وهو أرشيف ضخم سعت الدبلوماسية الجزائرية منذ عدة عقود إلى استعادته، وما تزال القضية موضع مفاوضات بين البلدين.
لعل من المناسب أن تعمل الجامعة العربية على إعداد بوابة إلكترونية ضخمة تعرض فيها كل دولة الوثائق المناسب عرضها لكي تكون في خدمة الباحثين والدارسين، تزود بين وقت وآخر بالوثائق المتاح عرضها، والتي انتهت مدتها القانونية للحظر، كما هو معمول به في الأرشيفات الأجنبية، ليس هذا فقط وإنما يمكن عرض نوادر المخطوطات واللوحات الفنية وكل المقتنيات ذات القيمة الفنية والعلمية، بعد أن أصبح الفضاء الإلكتروني وسيلة عملية وسهلة للتعريف بتراث هذه الأمة.
كانت مكتبة الإسكندرية قد عملت على تنفيذ هذه الفكرة في العقد الأول من هذا القرن، وأعدت موقعا تجريبيا لهذا المشروع، عرضت من خلاله نماذج من الوثائق والمقتنيات العربية، وقد تبنت الشارقة دعم هذا المشروع حينما دعا الدكتور سلطان القاسمي مجلس أمناء هذا المشروع للتعريف بهذا العمل، إلا أن ما حدث من ثورات واضطرابات اجتماعية ابتداء من عام ٢٠١١، قد عطل هذا المشروع، بل ذهب إلى عالم النسيان، أعتقد أن عودة هذا المشروع الحضاري الكبير يعد نقلة كبيرة في العلاقات الثقافية بين الأقطار العربية، لعل الثقافة تصلح ما أفسدته السياسة في حقبة تاريخية هي الأصعب في التاريخ العربي الحديث.
أعتقد أن قضية الوثائق يجب أن تحظى بمزيد من الرعاية والاهتمام، وخصوصًا بعد أن أصبحت معظم الجامعات العربية لديها أقسام متخصصة في علم الوثائق، لذا فمن الواجب أن تتواصل المؤسسات العربية المعنية بالوثائق مع بعضها البعض، سواء في التشريعات القانونية أو نظم الإدارة، والاستفادة من كل التجارب الجديدة التي تحقق الحفاظ على الوثائق والعمل على حمايتها وترميمها، لذا فإن هذه البوابة الإلكترونية يمكن أن تحقق فائدة عظمى في برامج التدريب والإتاحة وقواعد الحفظ، لعلها يمكن أن تكون بمثابة مدرسة متخصصة لكل علوم الأرشيف.
المشكلة الأكبر هي أن كثيرا من المؤسسات المعنية بالوثائق قد بالغت في القواعد والإجراءات لكي تحجب الوثائق عن الباحثين من خلال إجراءات أمنية لا يمكن العمل بها في الحياة المعاصرة. صحيح أن كل دول العالم قد وضعت قواعد لإتاحة الإطلاع على الوثائق تتراوح بين عشر سنوات إلى عشرين أو حتى ثلاثين عامًا للوثائق ذات الطبيعة الأمنية، بل إن بعض الدول الأوروبية قد حجبت تماما الوثائق ذات الطبيعة الخاصة، يصل بعضها إلى الحجب النهائي. كل هذا صحيح.. لكن القضية تحكمها ضوابط علمية وفنية وأمنية، أما في عالمنا العربي فالوثائق يتم حجبها بدون إبداء أية أسباب، كما هو الحال في مصر مثلا، فوثائق حرب السويس ١٩٥٦، وحرب ١٩٦٧، وصولًا إلى حرب ١٩٧٣، جميعها غير مسموح بإتاحتها، بينما أتاحت إسرائيل الكثير من وثائق حرب ١٩٧٣.
الحديث عن الوثائق وكل ما يتعلق بها يمثل حساسية خاصة، ولا أجد مبررًا لذلك إلا أننا لم نعِ بعد أهمية الوثائق في كتابة التاريخ، ومن غير اللائق أن يذهب الباحثون العرب في البحث عن تاريخ أوطانهم في الأرشيفات الأجنبية، بينما الوثائق العربية تحفظ متحفيا، وهو ما يضاعف من صعوبة عمل المؤرخ العربي.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.