روزنامة التفكير: لزمة الكتابة
في أحد أيام معرض مسقط الدولي للكتاب، التقيت مصادفة بالدكتورة منى حبراس السليمية، الحاصلة مؤخرا على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون عن فرع المقالة، فأخبرتها ممازحة بأنني سأقرأ سلسلة مقالاتها، وسأفتّش فيها عن لزمة الكتابة لديها، قالت ربما لا توجد لديها أية لزمة، فأجبتها: إذن سأخترعها! وكأن ذلك الحوار قد تجلّت فيه طاقة الكلمة، ليصبح اليوم حقيقة، وأكتب عن لزمة الكتابة في مقالات منى السليمية، حقيقة كانت أم مختلقة، وكما يقول روبرت مانكوف: «لا توجد خوارزميّة للفكاهة».
فها هي قد تجلّت حقيقة وواقعا، مجموعة مقالات متنوعة المواضيع، لا رابط بينها سوى أن الكاتبة واحدة، إلا أنه رغم ذلك فإن من يقرأ مقالاتها معا بلا شك يجد أسلوبا نمطيا، بالكاد أن يتم ملاحظته، لولا أنني أطلقت مزحتي تلك فأصبحت حقيقة، لتصدق بذلك مقولة فريجيس كارينثي: «الفكاهة هي الحقيقة الكاملة»، لأجد في الأسلوب الكتابي لدى الكاتبة تشابها نمطيا، مما يجعلني أصفها بلزمة الكتابة، فالقراءة لمنى حبراس أشبه باجتياز متاهة فكرية، مليئة بالانحدارات والمنعطفات.
وقبل التطرّق إلى لزمة الكتابة لديها سأتحدّث بعجالة عن اللزمة بشكل عام، فاللزمة هي التكرار النمطي والذي يحدث في الغالب على نحو فطري تلقائي، وقد لا ينتبه له صاحبه، وقد تكون تلك اللزمة تعبيرا عن تلك المهارات التي يتقنها العقل بالفطرة، بعيدا عن ذلك التكرار النمطي غير الواعي، واللامبرر الهائم بلا هدم وغاية، أو كما تقول قواميس اللغة: «من يلزم شيئا ولا يفارقه»، فنجد لزمة الحديث، وهناك لزمة الحركات، وهناك أيضا لزمات في الكتابة وطقوسها لدى الكتّاب، التي لا تتحقق الكتابة بدونها، وإن كان البعض يظن بأن اللزمة مرادفة لكلمات تقلل من أمر صاحبها، رغم أنها بعيدة كل البعد عن ذلك، فإنني أقول مثلما قال الشاعر: «حتى رأيت بك العيوب محاسن».
لنتساءل بعدها عن تلك اللزمة، فأيهما يأتي أولا؟ هل هي اللزمة فتجبرك على تكرارها؟ أم أن التكرار هو من يتنامى إلى برج اللزمة العاجي؟ وهل هي حركات لا إرادية أو أقوال تأخذ أسبابا بيولوجية؟ أم أنها تمتد إلى جذور نفسية عميقة؟ وهل صاحب اللزمة قادر على اكتشاف الأمر قبل أن يلفت انتباهه الآخرون؟ أم أنه عاجز عن تمييزها باعتبارها أمرًا غير واعٍ؟ هل هو أمر فطري يعود إلى الجينات الأولى أم أنه أمر مكتسب؟
وإن كانت تلك اللزمة تأخذ طابعا تكراريا، فهي بلا شك ينطبق عليها ما ينطبق على مقال سابق لي عن فلسفة نقّار الخشب، وحيث إن التكرارات المتتابعة تحقّق نتائج باهرة، «والتكرار يقود إلى حتميّة تحقق الهدف»، أو كما يقول جاك كانفيلد: «العادة وليدة التكرار».
تلك اللزمة إشارة خفيّة إلى كون تلك الأفكار ليست محض أفكار عابرة، ومما يتضح من أسلوب الكاتبة فهي تمتلك قلما بحثيا، فكما يقول كورماك ماكارثي: «الكتب مصنوعة من الكتب»، فهي تكتب بقلم فاحص يتكئ على عقل ناقد، له منظوره الفكري الخاص، ونسخته الخاصة رغم الكمّ المعلوماتي الهائل، تعرف جيدا كيف تستقي منه المعلومة لتوظّفها في إحداثياتها من النص، لتنطبق عليها مقولة أوستن كليون: «إذا أردت أن تصبح كاتبا فعليك أولا أن تكون قارئا»، كفراشة تعرف بحدسها تلك الأزهار الندية المشبعة بالرحيق، ففي نص القراءة والمشي تنقلت بحرفيّة بين المقولات التي تجلّت فيها المعاني التي تنشدها، تجمع فيها خلاصات الاقتباسات التي تحمل تجلّيات المعنى.
فهي لا تطرق المواضيع الجديدة بقدر ما تجعل من المواضيع القديمة طابعا جديدا عبر تقديمها برؤيتها الحرة الخاصة، فكما يقول تي أس إليوت: «إن مهمة الشعر الدائمة هي جعل الأشياء جديدة، وليس بالضرورة صنع أشياء جديدة»، تتفرد في انعكاسات المعنى في داخله، وتقدّس المعنى أكثر من اللغة المثقلة المزخرفة، فلها حرية الفهم، وزاويتها المميزة التي تتناول منها الأمور، ويتبدّى ذلك أكثر ما يكون في مقال «حكايتي مع المعنى»، ليتضح بذلك بأنها تعرف جيدا بأن المعنى هو جوهر كل نصّ مهما بدا نوعه، فتقول: «تملّكني شعور بأن المعاني أكثر الأشياء وفرة في الوجود»، فهي تجد الدهشة في الفكرة ذاتها، وما تحويه في باطنها من معنى.
وتلك كانت الأشياء التي لاحظتها على نحو عام، إلا أنه لا يمكن أن تطلق عليه لزمة؛ لكونه يتم بصورة اعتيادية، فاللزمة الحقيقية في أسلوبها الكتابي في التفكير أثناء الكتابة، فكما يقال دائما بأن أحدهم يفكّر بصوت مسموع، فإن منى حبراس تفكّر أثناء الكتابة، مما يدفع القارئ أيضا على التفكير معها أثناء قراءته للنص، فتدفع في نفسه البحث الذي يسير بالتوازي مع قراءته للنص «فلا شيء يضاهي البحث، إذا أردتم العثور على شيء» وذلك حسب مقولة تولكين، مما يجعل النص حيّا متحركا، وكما عبر عن ذلك الكاتب سليمان المعمري في مقالته رحلة بين دفّتين: «ما الكتابة لدى منى حبراس إلا محاولة لتجاوزها عن عجزها عن فهم الأشياء».
فهي تمتهن أداة السؤال كلزمة تكررها ولا تستغني عنها في كتاباتها، فالسؤال لا يحدد المعرفة ويؤطرها، بل أنه يفتحها على أفق الإجابة الفسيح، فلا شيء كالسؤال يستحثّ التفكير الابتكاري، وإن كانت الإجابة لم تُحصد في وقتها، فكما يقول بول فاليري: «العمل لا ينتهي، يُترك فقط». وبتأمل تلك العناوين وسبر أغوار دوافع الكتابة في موضوعاتها نجد أن التساؤل هو المحرك والوقود الأساسي الذي انبنى عليه الاهتمام بالكتابة، فكما يقال: «أخبرني إلى ماذا تنتبه أخبرك من أنت»، فهي تجيد التساؤل والتفكير لتكون بذلك أكثر من قلم تملكه، بل فكرا تبحر فيه، وقادرة على الإضافة إلى المنظومة المعرفية، فتكون بذلك الكاتب المفكّر في آن. فما إن تطرق ذهنها تلك التساؤلات، حتى يجيب قلمها عليها وإن كان بتساؤلات أخرى تقترب فيها من تلك الإجابة المنشودة، وكعادة تلك التساؤلات فهي تطرق أذهاننا بلا توقف، فما إن تحصل على إجابة ما أو تقترب منها حتى يولد تساؤل جديد في العقل، وكما كتبت سابقا في مقال سابق لروزنامة التفكير: «لولا جدليّة الإجابات من حولنا لانقرضت الأسئلة».
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية