المهلب بن أبي صفرة وخطبه
أبو صفرة الصحابي العماني، كان المهلب أوسط أبنائه، غير أنه أكثرهم موهبة وشجاعة وحكمة، رآه مرة عرفجة بن هرثمة الأزدي يلعب مع الصبيان فقال: خذوني به إن لم يسد، ويبلغ حتى لا يكون له مثل. وحين التقى أبو صفرة بعمر بن الخطاب ومعه عشرة من ولده- المهلب أصغرهم- نظر عمر إلى أولاد أبي صفرة ثم قال لأبي صفرة : هذا سيد ولدك، يعني المهلب، وحين قال علي -كرم الله وجهه- لأبي صفرة: أحضر معك أحد أولادك لأعقد له الراية، جاء بالمهلب وهو غلام ابن نيف وعشرين سنة، فدخل على الإمام علي فمسح مقدم رأسه إلى قدميه وعقد له راية وقال: اللهم ارزقه الشجاعة والسخاء والنهى، وعقد له راية الأمان وأمره أن يسير نحو الأهواز والبادية لأمنهم وأمرهم أن يرجعوا لمنازلهم ورجع معظم الفارين إلى البصرة وتيمن الناس براية المهلب.
وظل مع والده حتى وفاته، وشارك المهلب مع الحكم بن عمرو الغفاري في فتح الجوزجان وأظهر بأسا ومهارة في قتال العدو، حيث استطاع أن يقتل الفيل بعد أن أخاف جيش المسلمين، وحين رجع المسلمون أصابهم البرد والثلج فجعل العدو يتعقّبهم ويقتل منهم، فتأخر المهلب لحمايتهم ولعلاج الجرحى، فبلغ معاوية ذلك وكان معه سعد بن أبي وقاص، فقال سعد: اللهم لا تره ذلا أبدا وأكثر ماله وولده. واستمر المهلب يجاهد فشارك في قتال الترك وحين حاصر الترك الجيش، كما شارك في فتح سمرقند وفي تلك الغزوة قلعت عين المهلب يقول المهلب:
لئن ذهبت عيني لقد بقيت نفسي
وفيها بحمد الله عن تلك ما ينسي
إذا ما جاء أمر الله أعيا خيولنا
ولا بد أن تعمى العيون لدى الرمس
واستمر المهلب في معاركه فيقتل المهلب ملك الصغد ويفتح بخارى. وحين بويع عبدالله بن الزبير خليفة في الحجاز والعراق عيّن المهلب واليا على خراسان، غير أن أهل البصرة طلبوه لحمايتهم من الأزارقة قائلين له: «أنت شيخ الناس وسيف العراق وقد ترى ما فيه أهل مصرك من هذه الخوارج المارقة والإقامة في بلدك والذب عن حريمك أولى من خراسان»، ثم وصله كتاب ابن الزبير: «لقد رأيت أن تكون أنت من تلي قتالهم لأنك ميمون الطلعة مبارك على أهل مصرك»، وتدور بينه وبينهم معارك عنيفة طويلة ويستمر المهلب في قتال الأزارقة منذ سنة 71 إلى 77هـ، حتى استطاع هزيمتهم، ولما هزم المهلب الأزارقة بقيادة قطري بن الفجاءة، فقال الحجاج يخاطب أهل العراق «يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب». وبعد هزيمة المهلب للأزارقة أصبح المهلب واليا على خراسان.. ولم يزل المهلب عاملا على خراسان حتى أدركته الوفاة هناك، وظل يجاهد لنشر الإسلام في بخارى وسمرقند وطخارستان غير مهتم لوشايات الحجاج، وكــان لفتوحاته أكبر الأثر في إثراء الحضارة الإسلامية، وقد برز في تلك المناطق علماء ومفكرون عظام أمثال الخوارزمي والبخاري...
كان المهلب بن أبي صفرة يتمتع بكثير من الصفات الحميدة منها الشجاعة والقدرة الفائقة على القتال وإدارة المعارك بكفاءة منقطعة النظير، والفصاحة والبلاغة، وكان من أكرم أهل زمانه والأمثلة على ذلك كثيرة منه، وقد أقبل يوما من إحدى غزواته فتلقته امرأة فقالت له:
- أيها الأمير إني نذرت إن أنت أقبلت سالما أن أصوم شهرا وتهب لي جارية وألف درهم
فضحك المهلب وقال:
- قد وفينا نذرك فلا تعودي لمثلها فليس كل أحد يفي لك به.
كما كان المهلب من أحلم الناس ومن أخبار حلمه، أنه مر يوما بالبصرة، فسمع يقول:
- هذا الأعور قد ساد الناس، ولو خرج إلى السوق لا يساوي أكثر من مائة درهم.
فبعث إليه المهلب بمائة درهم وقال:
- لو زدتنا في الثمن زدناك في العطية وكان قد فقئت عينه بسمرقند.
وكان المهلب بليغا حكيما في آرائه له كلمات لطيفة، وإشارات مليحة تدل على مكارمه.
حكوا أن المهلب بن أبي صفرة (وهو أمير البصرة وقائد الجيوش الإسلامية المنطلقة منها للفتوحات شرقا) جمع أولاده وقال لهم:
- اتقوا زلة اللسان فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته، ويزل لسانه فيكون فيه هلاكه.
وشتم رجلٌ المهلب، فلم يجبه: فقيل له: «حلمت عنه».
فقال:
- ما أعرف مساويه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه. (أي إنني لا أعرف عيوبه لأشتمه بها، ولا أسمح لنفسي أن أصفه بعيوب قد يكون بريئا منها).
وحين مرض ذات يوم، أمر بصنع طعام خفيف على المعدة، فصنعت له وجبة المهلبية.
وتنسب وجبة المهلبية إليه، حيث قال الحجاج له في تعجب:
- يا ابن أبي صفرة من فتوحات الأرض ونشر الإسلام إلى فتوحات الشهية بوجبة المهلبية.
ثم اتبعها بضحكة مدوية.
وظل المهلب واليا على خراسان حتى أدركته الوفاة هناك..
وحين اشتد عليه المرض، دعا إليه ابنه حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، ثم قال لهم
اكسروها
حاول أبناؤه كسرها فلما لم يستطيعوا، قال لهم:
- أفترونكم كاسريها مجتمعة؟
قالوا بانكسار
- لا
قال فهكذا الجماعة، فأوصيكم بالاجتماع وبتقوى الله وصلة الرحم.
وحين حضر ابنه يزيد في مرضه أوصاه بقضايا وأسباب، ومن جملة ما قال له:
- يا بني، استعقل الحاجب، واستظرف الكاتب، فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسانه. و توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين للهجرة، بقرية يقال لها زاغول من أعمال مرو الروذ من ولاية خراسان.
ومن أقواله الخالدة:
«إن لم آت الموت مسترسلا أتاني مستعجلا»
«صاحب الحرب إذا نام نام قلبه»
«القتال إذا وقع وقع القضاء وبطل الخيار»
«عجبت لمن يشتري الممالك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه»
«العيش كله في الجليس الممتع»
«العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره».
ومن روائع خطبه قبل الوقعة مع الأزارقة فلما عاين القوم بعضهم بعضا واصطفت الخيلان، قام المهلب في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
«أيها الناس! أكرموا هذه الخيل، فإنها تنفعكم غدا عند اللقاء، فأجلوا السلاح لتقاتلوا به الأعداء، وأحسنوا حمله لتنظروا يوم الوغى، وتعلّموا القتال لتنصروا به مخارج الحياة، وأطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل، ولا تعالوا في السيوف فإنها مأمورة، واتخذوها فإنها شفار، وعيروا الجبان بالجبن حتى يقاتل، ولا تقولوا: الحين يحثه، ولم يفر قومٌ قط إلا وهنوا وإن كان رأيهم حازما، وليس كل عاد يرجع ولا كل سلامة تدوم، وهؤلاء القوم يقاتلونكم على دينكم ودنياكم، فإن غلبوكم فلا دين لكم ولا دنيا، فقاتلوهم على ما يقاتلونكم عليه - والسلام -»
قال: فأجابه الناس على ما يحب واعتذروا إليه مما كره، فأنشأ المغيرة بن حبناء التميمي في ذلك يقول:
يعلمنا المهلب كل يوم
قتال القوم تعليم الكتاب
ويلبسنا السلاح إذا أمنا
لنحذق لبسه والنقع كاب
وعاب حياتنا بالجن حتى
كأن حياتنا دين المعاب
ويجزي المحسنين بما أتوه
ويعفي المذنبين من العتاب
تتحدث الخطبة في الجزء الأول عن أمر عام وهو آداب الفارس النبيل، حيث عليه الاهتمام بالخيل وتكريمها، والاهتمام بالسلاح وحمله، وتعلّم القتال تعلّما، وإطالة الرماح وعدم رفع السيف رفعا مباشرا، كما يدل على طرق لتشجيع الجبان، محذرا من الفرار، ثم يذكر حكمتين «وليس كل عاد يرجع ولا كل سلامة تدوم».
أما الجزء الثاني فيشجعهم على قتال الأزارقة الذين إن غلبوهم فلا بقاء للدين ولا الدنيا لهم، فليكن دافعكم لقتالهم هو ذات دافعهم حماية الدين والدنيا.