القيمة المحلية «الوطنية» المضافة.. ومستقبل صناعة القوة الناعمة العمانية
من الأحداث الكبرى التي ينبغي التوقف عندها بعمق البرنامج الذي أطلقه جهاز الاستثمار العماني، والمسمى «ببرنامج القيمة المحلية المضافة»؛ لأنه من التحولات الإيجابية التي نراهن عليها في صناعة التوازن الاقتصادي والاجتماعي نتيجة الإصلاحات المالية والاقتصادية التي اتخذتها الحكومة منذ يناير 2020، وإعادة صناعة وتقوية مستقبل القوة الناعمة العمانية في ضوء تلكم التحولات، ولأنه - أي البرنامج - من بين أهم الأدوات التنفيذية لصناعة اقتصاد وطني منتج يهتم بثلاثة عوامل أساسية، أولها، تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتقوية مركزيتها في الاقتصاد، وهي قاعدة أي اقتصاد وطني مستدام، وثانيهما صناعة خبرات عمانية في مجالات متخصصة وعميقة في أمس الحاجة إليها الاقتصاد العماني المستقبلي الذي يتجه نحو الاقتصاد الهيدروجيني، ورفد مسارات الدولة الحديثة بجيل عماني مؤهل كالسيبرانية، والاستثمار في الفضاء الخارجي، والاستثمار في تقنيات الطائرات المسيرة، وثالثهما، توفير فرص عمل لقاعدة كبيرة من المواطنين.
وقد جاء إطلاق هذا البرنامج الاستراتيجي يوم الاثنين الماضي في ملتقى «روابط 4»، وهو برنامج يتعلق بالشركات الحكومية التابعة لجهاز الاستثمار العماني، وانطلاقته الآن يحل قضية تمويل صناعة تلكم القوى الجديدة للاقتصاد العماني خاصة، ولأجندة النهضة المتجددة عامة التي لن تكون على حساب موازنة الدولة، ولن تؤثر على مسيرة الاستدامة المالية، وبالنظر لتلكم الغايات الوطنية الكبرى المتوخاة من هذا البرنامج، نقترح تعديل مسماه؛ للتعبير عن حمولته الوطنية الطموحة، وليس المحلية؛ لأنه حامل لأهداف وطنية عليا ومتعددة ومتنوعة، لذلك ينبغي إكسابه الصفة الوطنية وليس المحلية، ويكون الاسم كالآتي: «برنامج القيمة الوطنية المضافة للشركات الحكومية»، وإضفاء هذه الصيغة، يلبسه الأهمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ويعد هذا البرنامج وفق ما سبق ذكره نهجا وطنيا جديدا للشركات الحكومية، ويتزامن مع مسارات التحولات والمتغيرات المالية والاقتصادية في البلاد منذ يناير 2020، من هنا ينبغي إضفاء عليه الصفة «الوطنية».
لكن، ماذا يقصد بالقيمة المحلية «الوطنية» المضافة ؟ لن نغرق في جدلية التعريف أو إشكالية تضاربه مع مسميات أخرى كالمسؤولية الاجتماعية للشركات مثلا، لكن ينبغي الإشارة إلى أن المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات تثار عندما تكون مسؤولة عن آثار سياساتها وأنشطتها على المجتمع والبيئة، حيث تقوم بدعم المجتمع عن طريق تخصيص أموال لدعم المجتمعات المحلية والحفاظ على البيئة، بينما أموال وسياسات القيمة الوطنية المضافة للشركات الحكومية تنصب داخل الاقتصاد الوطني بصورة متزامنة مع استثماراتها داخل البلاد، وتعرف وفق مصادر جهاز الاستثمار العماني بأنها إجمالي المصروفات المحتفظ بها داخل البلاد، ويمكن الاستفادة منها في تطوير الأعمال والإسهام في تنمية القدرات البشرية / الوطنية / وتحفيز الإنتاجية في الاقتصاد الوطني.
ولنا تجربة في القيمة المحلية المضافة لشركات النفط والغاز ما يمكن البناء عليها ليس للشركات الحكومية فحسب، بل لكل شركات المساهمة في البلاد، فعن طريق القيمة المحلية المضافة لشركات النفط والغاز ازداد - كما تقول بعض كتابات الزملاء - عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وزاد كذلك النشاط التجاري المحلي، وهذه التجربة تحتاج الآن لتقييم وتطوير من حيث شمولية حجم الانتفاع منها، وتعدد أغراضها، فمن بين أهم ملاحظاتنا عليها، أنها أصبحت مصدر ثراء بعض المحليين دون أن يكون لها انعكاسات ملموسة على المجتمعات المحلية، وهذا الثراء جعلهم ينتقلون من بيئتهم المحلية المنتجة لثرائهم إلى العاصمة، ومنافستهم لمظاهر الثراء في البلاد، لذلك، تحتاج التجربة للتقييم والتطوير في ضوء إعادة النظرة لمفهوم النطاق الترابي للتقسيمات الإدارية من منظور الفلسفة التنموية المتجددة، والامتداد الترابي بين البيئات المختلفة داخل المحافظة الواحدة، فمفهوم المجتمع المحلي ينبغي أن يتوسع، ويتسع في الإطارين الإقليمي والوطني.
والآن تقود الشركات المملوكة للحكومة ترسيخ وتطوير مفهوم جديد للقيمة المحلية / الوطنية / المضافة، ولا ينبغي أن ينحصر عليها فقط، وإنما يأخذ بعين الاعتبار شركات النفط والغاز وشركات المساهمة الأخرى دون التخلي عن دورها الاجتماعي السابق الذي نعتبره محدودا قياسا بتأثير أنشطتها السلبية على المجتمع والبيئة، ونجدها غالبا لا تتعدد إقامة وحدات طبية داخل بعض المستشفيات أو مظلات للمدارس رغم أهميتها الخ، وهنا نقترح إقامة صندوق وطني لبرامج القيمة الوطنية للشركات الحكومية والشركات التي تدير الثروات السيادية كالنفط والغاز، وتديرها هيئة تسمى «الهيئة العامة للقيمة الوطنية المضافة» ويكون لها مكاتب، تسمى «المكاتب الاستراتيجية للمحافظات» تقوم بتنفيذ الاستراتيجية الوطنية المعدة من قبل الهيئة في كل محافظة، وهي غالبا ما تنحصر على تعزيز الإنفاق على المنتجات والخدمات المقدمة للسكان المحليين، وتقوية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الإقليمية / المحلية في كل محافظة، وزيادة عددها في المجالات التي تخدم استراتيجية تنويع مصادر الاقتصاد العماني المستدامة، وضمانة أمننا الغذائي، وكذلك صناعة منظومة خبرات وطنية في التكنولوجيا والتقنية العميقة. على أن تحكم القيمة المضافة للشركات المساهمة الخاصة، وكذلك أموال المسؤولية الاجتماعية محددات توجيهية نحو المسارات الحديثة لمجالات المسئولية الاجتماعية، ونحن نتحدث هنا عن المليارات التي يمكن توفيرها من القيمة الوطنية المضافة سواء للشركات المملوكة للدولة أو شركات النفط والغاز، وهي ستكون كفيلة لأحداث التحولات اللوجستية المؤهلة للاقتصاد العماني الجديد «ماديا وبشريا» فعلى سبيل المثال، وقع جهاز الاستثمار في ملتقى انطلاقة هذا البرنامج على عدد من الاتفاقيات مع مؤسسات محلية بقيمة أكثر من مليار ريال عماني،وعلى سبيل المثال كذلك أن استراتيجية القيمة المحلية المضافة للنفط والغاز قد رفدت اقتصاد سلطنة عمان بملياري دولار خلال عامين سابقين.
والآن الأجندات الوطنية للقيمة المحلية / الوطنية للقيمة المضافة متعاظمة ومتعددة وشاملة، وتحتاج لسيولة مالية ضخمة مثل توطين التكنولوجيا العميقة للدواعي التي أشرنا إليها في مقالين سابقين بعنوان «الاقتصاد العماني الجديد، وجيله الوطني التكنولوجي / التقني» والآخر بعنوان «مصانع إنتاج الكفاءات العمانية لمستقبل التكنولوجيا المتقدمة»، وكذلك الحاجة إلى تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الإنتاج، وفي قيادتها للحركة التجارية الداخلية، وفي صناعة فرص عمل سواء من خلال العمل على تقوية مؤسسات التدريب والتدريب أو الابتعاث الخارجي المحكوم بحاجة الاقتصاد العماني الجديد، ومسارات الحداثة للنهضة المتجددة.
وهناك الحاجة الكمية والنوعية للكفاءات العمانية للمجالات العصرية التي تشكل رهانات مستقبل بلادنا، حيث نحتاج للنوع والكم لكفاءات عمانية متخصصة في وكالة الفضاء الخارجي، ومثلهم في تقنيات الاقتصاد الهيدروجيني، ومثله في الأمن السيبراني وفي تقنيات الطائرات المسيرة، وهذه مجرد نماذج للقوة الناعمة للنهضة المتجددة، ولا غنى عنها لبلادنا لمواجهة مختلف التحديات والإكراهات المستقبلية التي بدأت ملامحها من الآن بصورة مقلقة.
ولا يعذر الآن بقضية السيولة المالية في استنهاض دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الإنتاج والتجارة الداخلية، وفي توفير فرص العمل، ولا تمويل صناعة الكفاءات العمانية لاقتصادنا الجديد، فالأموال الآن ستتوفر من خلال القيمة الوطنية المضافة وسياسته العامة، تظل الإشكالية الآن في التطبيق كهاجس لنجاح الغاية السياسية من القيمة الوطنية المضافة، وبلورة نتائجها اقتصاديا واجتماعيا عن طريق شمولية الانتفاع وفق رؤية شاملة لتحقيق أهداف ملموسة في إطار زمني قصير ومتوسط، ونحسب تحليلا أن الهيئة المقترحة للقيمة الوطنية المضافة تستوعب قضايا التطبيق بما فيها شمولية الانتفاع.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه