روزنامة التفكير.. العشوائية إذا انتظمت «فن»
على كثرة اللغات من حولنا، باختلاف أجناسها، وما طالها من تطوّر وتشعّب، وما كابدته أخرى بالاندثار فور اندثار الناطقين بها، يستمر الزمان في ولادة المزيد من اللغات، وتجديد بعضها وتشذيب الآخر، وتوحيد مجموعة منها في مجاميع لغويّة منتظمة، فاللغات في حراك دائم ما بين السيرورة والصيرورة، فيحدث لها ما يحدث لجغرافية القارّات وتوالي الشعوب، واندثار بعضها وما يقابله في الجهة الأخرى من ميلاد مستمر، وانبثاق دائم لمخلّفات الماضي، وتأتي لغات التواصل من بين كل تلك الأشياء التي تطالها تلك القوانين الكونية ما بين موت وولادة.
وكشفت كثير من الأثريات عن اندثار عدد من اللغات واللهجات، التي كانت تخصّ شعوبا بعينها، وما إن اندثر حسّهم، حتى قامت هي بدورها باللحاق بهم في طريق نحو الانتهاء والزوال الأبدي، إلا أن ذلك الغياب الذي سجّله عدد من اللغات، لا يعني تناقص اللغات من حولنا بتاتا، فما زالت لغات التواصل في طريقها للنور، تتكئ على الاحتياجات المجتمعيّة، فأصبحت هناك لغات برمجة ولغات رمزية في الأعمال الفنيّة والأدبية، وأصبح من الضرورة التعرّف على تلك اللغات، وإن لم يكن عن طريق تدارسها وإتقانها إنما يكفي الاعتراف بها كلغة، جاءت من رحم العصر الرقمي، فإن ذلك يعتبر كافيا.
من تلك اللغات التي تحتاج إلى تعلّمها لغة تخاطب بين الفن والمتلقّي المتذوّق، بدون أن تكون بالضرورة صاحب اختصاص، وعلى دراية تامة بتفاصيل تلك الصنوف من الفن بأنواعها التشكيلية والأدبية.
قد يكون منا من تعرّض لموقف أن يصطحب أحدهم إلى أحد المحافل الفنّية، فتبدو أنت مشدوها عن آخرك، بينما هو لم يتحفّز انتباهه للأمر قيد أنملة، بل أنه قد يرى كل ذلك مدعاة للملل والسخف والسطحية، هازئا بالفن متشكّكا في غائيته، وقيمته الماديّة والمعنوية، بتهمة عدم قدرته على الإضافة الفكرية ظنا منه ذلك؛ وأنه بعدم قناعته قد يذهب معه كل ذلك الفن بقيمته العميقة أدراج الرياح، وأنت بدورك تسعى إلى إقناعه بأنه لا حاجة للتخصص، ولا علاقة للأمر بشأن الخلفية المعرفيّة المسبقة حول الفنّ، بل أن الأمر برمّته يعتمد على التذوّق بكلّيته، بدون إبداء التفسيرات أو تفصيل العمل الفني وتجزئة جماليته، فإعجابك لا يكون إلا عن طريق أخذ العمل الفنّي كوحدة واحدة، بدون أن يكون له مبرّر كما هو موقف الفنّان في كثير من الأحيان، حين يُسأل عن عمله الفنّي والأدبي، فهو غير قادر على تفسير الأمر، ولا أن يبرّر مراحل عمله الفني، فيكاد يكون لا يملك الإجابات لأي شيء، فهنا أنت أمام فن لا يفهم إلا بالفن.
وبداية من السؤال السقراطي «ما الذي يجعل الفنّ فنا»، ولأن الفن ملك الجميع ولا بدّ أن يكون حاضرا في كل المحافل والاختصاصات والأماكن، إذ إن عليها أن تكون بلمسات فنّية إن لم تكن مصطنعة متكلّفة مبتذلة، فعلينا كحد أدنى محاكاة فن الطبيعة، حيث إن الطبيعة مادة الفن الأولى، بأصواتها الهامسة وألوانها وتضاريسها، فالإنسان عرف ذلك أم لم يُدرك الأمر فهو مجبول على الفنّ، وعلى ذلك الانبهار غير السببي وغير المبرر بالضرورة، لأن الفنّ من حوله باذخة في الطبيعة من حوله، وهو مجبول في فطرته الأولى على التأمل والتفكّر فتتسع عينيه على نحو بديهي لرؤية الجمال، فيظل مشدوها بإيقاعات الطبيعة وأحداث الجمال خاصة إذا ما قام بإرهاف حواسه.
الأمر في الفن التشكيلي مختلف بعض الشيء، فبات من الضروري إيجاد لغة مشتركة، نقرأ فيها ذلك العمل الفني، وفهم فحواه والإبحار إلى تخوم المعنى اللانهائية، وخاصة تلك الأعمال العصية عن التأويل التي تجد نفسك من الصعوبة إيجاد صلة بين الشكل والمعنى، قد لا تكون تلك اللغة بحاجة إلى تخاطب وتعليم وممارسة حد الإتقان، فهي لغة قوامها الصمت، وحروفها التأمل، وكلماتها التفكّر الحر، لاستجداء المعنى بدون الحاجة إلى مَلَكَة الفهم، لتقرأ العمل الفنّي كما أنت تريد، وليس كما يريد الفنّان ويسعى، وفي ذلك لا شيء من التناقض، فكما يقول أمبرتو إكو: «إن حدود التأويل تتطابق مع حدود البداهة».
نحن بحاجة إلى لغة جديدة تمكّن المتذوّق من قراءة المعنى الباطني في الفن، بلا اختصاص أو تدارس أو قوانين، لغة لا علم فيها ولا قواعد، أن تكون مستقبلا فقط، فعادة هو يصعب شرحه، رغم ذلك بإمكانك وبكل سهولة الإحساس به رغم بحوره الواسعة، بينما تجد أن بقية اللغات بحاجة إلى دخول في التفاصيل، فإن لغة الفن بحاجة إلى توسعة المعنى، فليست الأعجوبة في العمل الفنّي بل في معناها الذي تختلقه لنفسك، كسرّ ضائع يصعُب الإمساك به وغير خاضع لقوانين المنطق فلا يمكن للعمل الفنّي أن يتجلّى بدون الآخر.
فمن ذلك العمل الفنّي ليس هناك معلومات معرفيّة ستجنونها، والأمر ليس بحاجة إلى تركيز ذهن أو تفكير مؤرق ولا تدريبات ذهنية، فقط استرخاء ذهني، وإيقاف لتوارد الأفكار، فهو ليس تدريبا ذهنيا من الأساس وبمعناه المتعارف، إلا أنه أهم ما يحتاجه الذهن، فذلك السكون نستعين به للاستعداد لشحذ الذهن فيما بعد، وتقويته للتركيز لاحقا.
الجمال في العمل الفنّي لا يُفسّر ولا يُشرح، فقط هو يستثيرك لتجيب على عدد من التساؤلات: ما هو انطباعك؟ وما هو شعورك قبل مخاطبة العمل الفنّي؟ وما هو شعورك بعدها؟ نحن بحاجة إلى تلك اللغة التي تشابه لغة الصمت، عبر تبادل الحديث مع الفن، الذي يعني أن تكون مأخوذا به، فيُقرأ الفن بتفكّر نهايته مسدودة حول التعقّل، فقط يكفي أن تشعر بشيء ما، فهو الفن الذي نراهن عليه ونراهن به.
العمل الفنّي الذي يزهو بخيلاء هو اللغة التي أنت بحاجة إلى أن تترجمه إلى معنى وعلى نحو مجازي، بمعنى الاستماع إلى أصدائه في داخلك، فقراءة الفن هي فنّ من نوع آخر، فكل ترجمة تتبعها على العمل الفنّي لها أسلافها من التراكمات المعرفية والشعورية، تلك الترجمة رغم أن المختصين بذلك العمل الأدبي قادرون على تفنيده وتفصيله وتفكيك أركانه، إلا أنك كقارئ عابر متذوّق لا غير، فلست بحاجة إلى ذلك العلم القائم على التفكيك، الذي قد يشتتك عن المعنى الأساسي الجوهري، فترجمتك تكون بصمت مطبق، وتناول العمل بكلّيته بدون إدراك أبعاده على نحو علمي، وكما يتم تدارسه بين المختصين، هو كتأمل بسيط كفيل بأن يُعطيك الانطباع، والذي يكون من الأساس هو ذلك المعنى بالضبط تحديدا، فميزة الفن أنه للجميع، وبالتالي فإن أساليب ترجمته وتحويل لغته إلى معنى متاحة للجميع، كل حسب طريقته وفهمه واستقبال حواسه لذلك العمل، لغة قوامها الصمت لا قواعد فيها ولا فنّيات، لغة يعرفها الإنسان من الجمال الذي جُبل عليه، ويراه من حوله، فالطبيعة مجددا وعلى نحو هي مادة الفن الخام.
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية