المأزق الفكري للثقة
في كتابه «إبستمولوجيا (نظرية المعرفة)»، يحدثنا غاستون باشلار تحت عنوان «أفول الأفكار الأولية» عن النسبية باعتبار إمكانات نجاحها في مناقشة صورة العالم، من خلال طرح «الشك في الأفكار المؤكدة الثابتة»، أو «إعادة ازدواجية وظيفية للأفكار البسيطة»، وبهذا فإنه يقدم للقارئ محاولة للإجابة عن مجموعة من التساؤلات من خلال موضوع النسبية منها «كيف يمكنك استخدام الفكرة البسيطة؟»، وكيف تُبرهَن الآنية؟ «اللحظة»، وكيف يمكن التعرُّف عليها؟ و«كيف تقترح علينا أن نتعرَّف عليها؛ نحن الذين لا ننتمي إلى النظام المرجعي نفسه؟»، وهي تساؤلات تُطرح على المستوى الأخلاقي التواصلي، الذي يريد من خلاله المرسِل الإقناع بأفكاره حتى البسيطة منها، فماذا يفعل من أجل ذلك؟ ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟.
إن باشلار هنا يطرح النسبية من خلال تلك القدرة التي تمنحنا إيَّاها لتقديم مفاهيمنا إلى الآخر، وتلك الأساليب التي نستعملها من أجل الإقناع عبر وسائل معرفة استدلالية وتجريبية آنية، قادرة على مواكبة تلك الآنية اللحظية دون تزامن مع الواقعية؛ أي دون أن تكون لها علاقة حقيقية بالواقع، فهي آنية مستقلة عن النظام المرجعي، ولهذا فإنه يقدِّم في مقابل ذلك تلك النظرة التي تجعل من الواقع حتمية آنية لا تنتظر، إذ يجب (الإمساك به لحظيا) – بتعبير باشلار –، ومن هنا فإنه يحيلنا إلى (التجربة) التي تعتمد على خواص قابلة للتمثيل أو الاستيعاب باعتمادها على (المرجعية)، فهي (ملحِّة وحاسمة) بينما النسبية تسعى على الدوام إلى إيجاد نظام يتأسَّس على تنظيم التجربة وفق خواصها المميَّزة، الأمر الذي يعني أن تلك المرجعية ضرورة حاسمة من أجل الإمساك باللحظة الآنية، وبالتالي القدرة على الوصول إلى الاستدلال.
ولأن التجربة قابلة للتمثيل ومعتمدة على المرجعية؛ فإنها في علاقتها بالواقع ترتبط بالآخر؛ الآخر الذي نتعامل معه، والآخر الذي نتواصل معه، والآخر الذي نصل إلى معرفة فكره اعتمادًا على التجريب والاستدلال، ولهذا فإن هذه المعرفة تعتمد على حتمية الثقة باعتبارها تبادلية، قادرة على كشف المقاصد بين المتواصلين، ومستجيبة لأنماط التفكير وأنماط الفعل القائمة على الأدلة، والعقلانية واستيعاب المعرفة باعتبارها المسوِّغ القادر على اختزال مفهوم الثقة بين طرفين قد لا تجمعهما مرجعية واحدة، لذا سنجد أن موضوع الثقة من الناحية الفلسفية التواصلية يقوم مبدئيا على المعرفة التجريبية، اعتمادا على فهمنا للآخر وقدرتنا على الوثوق به.
إن الثقة بذلك مكوَّن أساسي فيما يُطلق عليه بول ريكور بـ (الاستهداف الأخلاقي) القائم على معيار الذاتية ونظرتها للآخر؛ فهو استهداف تقوم عليه (الحياة الجيدة الخيِّرة) ضمن مرسى (التداول) والواقعية من ناحية والتعقُّل والحذر من ناحية أخرى، إذ لابد أن تكون العلاقة بينها جميعا باعتبارها فضائل للوصول إلى الغاية القصوى في الحياة عبر (الثقة)، ضمن علاقات منطقية ما بين التنسيق والتبعية والتوازن والتجريب لبلوغ تصوُّر معياري لحقيقة الثقة التي نمنحها للآخر ضمن المفاهيم الفلسفية للأخلاق. ولأن الثقة ضمن المفاهيم العقلانية لا تعتمد على المنطق العقلاني الواضح، إذ ارتبطت بالعلاقات الأخلاقية من حيث قابلية تطبيق مفاهيم الصدق والكذب أو المدح والذم والنقد، وذلك ضمن مفاهيم الإبستمولوجيا الأخلاقية التي تعتمد على قدرة الثقة على المرونة والتأثير في الآخر في حدود الزمان والمكان المُتاح، وضمن الممارسات التواصلية (اللغوية، والسياسية، والأدبية....)، فثقتنا في الآخر مسؤولة على المستوى الأخلاقي عن تلك الآليات والأنساق التي نبوح بها للآخر في حدود (الحلقات التأويلية) التي تحددها تلك الثقة والمعرفة والمنظور الأخلاقي الذي تفرضه، ولذلك فهي المسؤولة عما يسميه تشارلز تايلور بـ (تقدير الذات) الذي يتبع مصير التأويل التواصلي وصراعاته بالمفهوم الفلسفي الأخلاقي.
ولعل الثقة من وجهة النظر الإبستمولوجية (المعرفية)، والأخلاقية الفلسفية، تُشكِّل اليوم موضوعا يحتاج إلى إعادة تفسير وتأويل ضمن آفاق تواصلية أكثر تعقيدا من الناحية التجريبية؛ ذلك لأن المنظور الأخلاقي للتواصل قد أصبح أكثر تعقيدا ليس فقط من ناحية الوسائل والقنوات الافتراضية بل أيضا على مستوى الزمان والمكان، وكذلك على مستوى الخطاب نفسه، ومفهوم الذاتية على المستوى الحواري، وبالتالي على مستوى ما يُطلق عليه إيمانويل كانت (فكرة التبادل) في الصداقة (الخيِّرة) بين الشركاء الذي تجمع بينهم مشتركات فكرية تستهدف الحياة المشتركة. إن الثقة انطلاقا من ذلك تبدو أكثر إلحاحا؛ فما الذي يدفع ذواتا لا تجمعها مرجعية أو حتى هُوية معرفية مشتركة إلى التواصل بل إلى (الثقة)؟ وما الدافع الذي يجعل المتواصلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا يثقون ببعضهم ضمن فضاء افتراضي غير معرَّف؟ وما الذي يدفعهم إلى التأثير والتأثر ضمن المفاهيم الأخلاقية المعرفية حتى يصبحوا (أصدقاء افتراضيين) على المستوى العقلاني أو حتى العاطفي؟
ليس من السهل الإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن علينا التفكير في ماهية (الثقة) التي نمنحها للآخر، ولعل ذلك يدفعنا إلى محاولة الإجابة عن السؤال (ما الثقة؟) من الناحية المعرفية والأخلاقية؛ ففي كتاب (الثقة والأخلاق والعقل البشري)، يناقش أولي لاغرسبيتز، مفهوم الثقة وفقا لمفاهيم الفلسفة، انطلاقا من اعتبار أن (تثق يعني أو تُراهن)، أو (إن الوثوق يماثل المراهنة)؛ فطريقة مقاربة الثقة هنا تعتمد على (وصف السياق)، فالمرء ينظر إلى الثقة باعتبار السياق العام للفعل، ذلك لأن الثقة أو عدمها تحدده المرجعية المشتركة سواء أكانت بين الذات في علاقتها بنفسها، أو في علاقتها بالآخر؛ بمعنى، ما الأسرار التي لا آمن بكشفها لأحد (غيري) بوصفي موثوقا به، وبين تلك التي آمن بها مع (الآخر/ الصديق أو الأخ أو غيره) باعتباره موثوقا به، فالثقة هنا ترتبط بالمراهنة باعتبار السياق الذي يحكمها ومدى موثوقية الآخر، أو المراهنة على موثوقيته.
لهذا فإن (الثقة) في التواصل الافتراضي تبدو أكثر تعقيدا من ناحية السياق والمرجعية المشتركة، وبالتالي قدرتها على تأسيس ما يسميه لاغرسبيتز بـ(علاقات ثقة مستقرة)، باعتبار أن المتواصلين غالبا لا يشتركون في تعارف إنساني واقعي، قائم على (اليقين) الفكري والأخلاقي، الذي يمكِّنهم من رؤية اجتماعية وأخلاقية من الناحية المعرفية، وهذا يعني أن الثقة في الآخر ضمن هذه الفضاءات التقنية تعني المراهنة على مصداقية الآخر وموثوقيته على المستوى الأخلاقي؛ ليتشكَّل فعل التواصل وفق علامات تفاعلية ذات موارد فكرية متاحة تقنيا تعتمد على تأسيس فضاءات اجتماعية تعيد تشكيل أنماط التواصل وبالتالي تغيير أنساق النمو المعرفي، وتحاول ضمن ذلك إعادة الرؤية الجريبية للأخلاق.
إنَّ المتابع لآليات التواصل ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، سيجد أنه تواصل أشبه بمواثيق الإشهار من ناحية، والفُرجة من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الذات في ثقتها بالآخر تجعل من المراهنة أكثر اتساعا، من حيث اتساع اختراق الثقة، وإمكانات الفضاء التجريبي، فما نكتبه من منشورات أو تغريدات هو إشهار، أو فرُجة مرئية أو صوتية، على مستوى الذات الفردانية، وبالتالي فإنها تعرض قدرتها على الموثوقية لمتابعيها وفق شروط يحكمها التجريب والتصورات الموجَّهة نحو التوقعات في ردود الأفعال، الأمر الذي يعني أن تلك الثقة ليست سوى رهان يمكن اختراقه من ناحية فضاء العلاقات الأخلاقية التي تجمع مجموعة من الذوات غير المتجانسة أو غير المتسقة فكريا، والتي لا تجمعها مرجعية فكرية مشتركة، ليظهر ذلك في (التفسيرات المعيارية البحتة للثقة) –حسب تعبير لاغرسبيتز–، فيتسع نتيجة لذلك مجال التبادلات الاجتماعية والتجادلات التي قد لا يجمعها مشترك غير المنشور الذي يمثِّل رأيا ذاتيا مثيرا قابلا للطعن من الناحية المعرفية البحتة.
ولأن جاكبسون في نموذجه التواصلي يخبرنا أنه (لا يكفي معرفة الشيفرة (العلامة) لفهم الرسالة... نحتاج إلى معرفة السياق)، فإن السياق في خطابات التواصل الاجتماعي غالبا غير متوفِّر، وغير معرَّف؛ فالإطار المرجعي الذي يحدِّد (العلامات اللسانية) غير واضح بالنسبة للمتلقين، وهذا يعني غالبا عدم الوثوق فيهم على المستوى الأخلاقي، فكثير من تلك العلامات رمزية أو موجهة نحو أهداف قصدية لا يعرفها سوى الذات المرسلة، الأمر الذي يدُّل صراحة أن الثقة المنشودة بين المتواصلين ضمن هذا الفضاء المكاني المُفترض قائمة على المراهنة على قدرة المتلقين على التفسير أو التأويل، وبالتالي قدرتهم على التعاون أو التعاطف أو إحداث ردة فعل تُرضي المرسل، أو تُحدث تأثيرا.
إن العقل الذي يتحكمَّ في خطابات التواصل الاجتماعي لا يخرج عن تلك الأُطر الذي وضعها يوجين هابرماس والمتمثِّلة في نوعين هما (العقل الأداتي) المتمركز على الذات وهو نتاج سيرورة اجتماعية قائمة على (سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيَّأ) –حسب تعبيره–، و(العقل التواصلي)؛ الذي يمثل البعد الموضوعي الإنساني للعقل، بحيث يتجاوز الذات نحو الشمولية، فـ(يدَّعي أنه يتضمَّن كل شيء)، وفي كليهما سنجد أن صورة الذات المرسلة تعبِّر عن الثقة ضمن الفعل التواصلي الذي يقدِّم نفسه باعتباره إشهارا متعاليا وفي الوقت نفسه قادرا على إثارة المتلقين والكشف عن مدى ثقتهم في الخطاب المرسل أو حتى في الذات المرسِلة سواء أكانت صريحة أو مختبئة، شخصا أو شخصية، فالأمر هنا لا يتعلق سوى بالإثارة والتفاعل الناشئان عن تعالي الخطاب وفوقيته أو ادعائه بالمعرفة المطلقة.
وعلى الرغم من أن هابرماس لم يتحدث عن الثقة كثيرا في نظريته للفعل التواصلي، إلاَّ أنه اعتمد على هذه النظرية فيما يرتبط بالوعي والفعل والممارسة، ولعل مناظراته المتعددة مع هيدجر وريكور كان لها الأثر الكبير في تطوير هذه النظرية اعتمادًا على اللغة وبعدها التداولي، إضافة إلى ما لاقته نظريته من معارضات على مستوى ما يسمى بـ(الفعل الاستراتيجي)؛ فالفعل التواصلي لا يُراد منه على الدوام التفاهم، ففي أحيان كثيرا يراد منه التلاعب أو الخداع أو غير ذلك، وهنا يمكن القول أن ما يحدث من جدليات تأويلية على المستوى اللغوي في وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن إلاَّ أن يتأسس وفق منظور الفعل التواصلي القائم على (الثقة)، إلاَّ أن ذلك الفعل، وهذه الثقة لا يمكن الجزم بمرجعيتهما أو مقاصدهما سوى وفق المنظور الأخلاقي العام، فكثير من تلك الأفعال قائمة على مقاصد خفية، أدَّت إلى نتائج غير محمودة على المستوى المجتمعي، وبالتالي فإن فعل التواصل قادر على اختراق الموثوقية من خلال المراهنة على الفعل نفسه.
ولهذا فإنَّ الثقة ضمن مفهوم (الفعل الاستراتيجي) تقوم على معرفة مرجعية الذات المرسِلة والخطاب اللغوي للرسالة، الأمر الذي يجعل هذا غير متحقِّق في وسائل التواصل الاجتماعي وسط العديد من التداخلات المرجعية، وتعدد الثقافات، إضافة إلى ما يسميه لاغرسبيتز بـ(المأزق الفكري) بين العقلانية والاجتماعية؛ أي بين ما نؤمن به وما نصدقه، وبين مرجعيتنا بوصفنا متلقين، وبين مرجعية نص الرسالة والذات المرسلة، بصرف النظر عن معرفتنا الشخصية بالذات، إلاَّ أن هذا المأزق يشتد وفقا للعوائد العاطفية، ورغبة الذات المرسلة إلى تعظيمها استغلالا للانفعال والإثارة، وهنا ستكون الثقة في حالة المراهنة على المستوى الأخلاقي.
في مقال بعنوان (حول مخاطر الاطمئنان؛ النظرية التطمينية للثقة)، يخبرنا إدوارد هنشمان عن تلك المخاطر التي تواجهها الثقة؛ حيث يتم انتهاك (التفاهم المتبادل للثقة البين – شخصية) –حسب تعبيره–، فـ(التطمين) الذي تمنحه الذات المرسِلة عبر خطاباتها اللغوية يشكِّل تأكيدا أخلاقيا، سواء أكان عبر العلامات اللغوية الصريحة أو عبر الصور أو الإشارات أو غير ذلك، فكلها وسائل تلجأ إليها الذوات من أجل بث الاطمئنان في الآخر، بهدف الوصول إلى الموثوقية والجدارة، وهو يندرج ضمن (الفعل الاستراتيجي) الذي يبث الاطمئنان من أجل تحقيق الثقة، وبالتالي الوصول إلى الغاية التأويلية المنشودة، ولهذا فإن حالة الاطمئنان سواء أكانت ضمن ما أسماه هنشمان (الثقة المخونة)، أو (الثقة المخيبة للأمل)، تندرج ضمن مفهوم (المأزق الفكري)؛ فهو تطمين يقود إلى الاستدراج من الناحية الأخلاقية، وبالتالي تعظيم العوائد للذات المرسلة ومصالحها.
إن موضوع الثقة باعتباراته الفلسفية والأخلاقية، يبدو أكثر تعقيدا في التواصل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر منه في الحياة الاجتماعية العامة؛ ذلك لأنه يعتمد على الرغبات والتفضيلات من ناحية، والائتمان وإمكانية الطعن من ناحية أخرى، وفقا لتلك المعطيات التي يفرضها (الفضاء الافتراضي)، فهو افتراضي من حيث الزمان والمكان، وافتراضي من حيث الذات المرسِلة، بل وحتى الخطاب المرسل يعتمد على الافتراض باعتباره غير معروف المرجعية غالبا، ويقوم على الانفعالية والتأثير، ولهذا ستكون (الثقة) على الدوام في مأزق فكري غير قادرة حتى على المراهنة، وسيبقى السؤال (ما مدى ثقتنا في الآخر الافتراضي؟)، ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟).
عائشة الدرمكي باحثة عمانية متخصصة في علم السيميائيات