تجاوز حدود التماهي
عن ذلك التماهي الذي يحقق لبشريّتنا حدودا كونية أوسع تتجاوز نطاقه الجسدي، والذي تقف عنده تساؤلات العلم حائرة بلا إجابة، مع ثبات الافتراضات حول استحالة حصولنا على إجابات وجودية نهائية، إلا أننا رغم ذلك قد نقترب بضع مليمترات من المسافات الضوئية الشاسعة ما بيننا وبين الحقيقة، رغم ذلك إلا أنها تكون مرضية لنا حقا، وإن كانت على نحو وقتي بخدر زائل في اللحظة.
لتأتي رواية أليف شافاك "جزيرة الأشجار"، ويقربّها لنا الكاتب والمترجم العماني الدكتور أحمد حسن المعيني، لتحقق لنا ذلك الإشباع الذي نكتسبه حينما نشعر بأننا نقترب ولو قليلا من الإجابة على بعض تساؤلاتنا، وإن كانت خطوة باتجاه مزيد من التساؤلات، لتحقق بذلك إضافة نحو غايات الأدب التي يسعى إلى تحقيقها، والتي يندر أن تتواجد وتتحقق وسط زحام أرفف المكتبات.
جاء هذا العمل وعلى نحو فلسفي يطرق باب التساؤلات الوجودية، حول جذورنا وامتداداتنا البشرية، وعن حدود التماهي التي من الممكن أن تربطنا بما حولنا، من فضاءات رحبة ممتدة وما نحن محاطون به، الى أين يصل امتداد بشريتنا يا ترى؟ لنستعين بالحكاية باعتبارها تتعدى أن تكون فقط أمثولة رمزية، تعبّر عن الواقع إلى كونها أداة لا يستهان بها من أدوات العلم، لاستنباط الحقائق والاسترشاد بها نحو المجهول، وخاصة ما إذا تكررت بعض الحكايات دون غيرها، وعلى نحو نمطي لا يمكن تجاوزه وتجاهل اعتباراته، فتتشابه الحكايات وتكرارها يعطي لمحة لنمط استقرائي جيني فطري، تسير عليه منظومة الحياة الكونية، لتبدأ الحكاية منصاعة بالسطوة الجينية الوراثية، على تسيير حياتنا مسترشدة بمقولة وليم شكسبير من مسرحية ماكبث: "سيكون في الأمر دم، يقولون أن الدم يورث الدم، والأحجار على عهدها تتحرك والأشجار تنطق".
لتبدأ فصول الرواية بالتناوب والتبادل، ما بين الواقع والتأمل الداخلي العميق، وما بين البشر والكون من حوله، ما بين أحداث معاشة وما بين امتدادات الماضي والمستقبل، وما بين الوعي واللاوعي، وما بين أبطال الحكاية وشخوصها من البشر، وما بين تلك التينة باعتبارها أحد رواة الحكاية، " تخيّل أن التينة شهدت على كل شيء "، والتي تنظر إلى الحكاية من زاوية وجودية تتشابه مع جذورها وامتدادها.
"لعلّها محض أساطير.. غير أن الأساطير ما وُجدت إلا لكي تقصّ علينا ما تسلل من ذاكرة التاريخ "، هكذا هي الحكايات التي تقترب منا نحو الغرائبية والتماهي، والأهم من ذلك تقترب من الإجابات، تلقى مع مرور الزمن تهميشا لا يكسبها إلا مزيدا من الرصانة والثبات لتتحول إلى "أسطورة" كمحاولة إبعادها عن الواقع، وذلك عن طريق اختلاق الأعذار لتهميشها، وعلى رأي المثل "إن أرادت القطة أن تأكل صغارها قالت إنها تشبه الفئران"، لكن ذلك لا يزيدها إلا ثباتا وخلودها، وذلك بعد أن تطالها "ذاكرة عابرة للأجيال".
تبدأ الحكاية بامتداد زمني يسير بالتوالي ما بين المستقبل وما بين الارتداد نحو الماضي، أو حتى الانفلات كما يحدث مع أحاديث التينة المروية، " الزمن طائر مغرّد، لا يمكن السيطرة عليه إلى أبد الآبدين، فلا يوجد أسر يدوم الى الأبد"، ليبدأ السرد القصصي " وبتحنان عفوي " مع آدا تلك الفتاة بعمر اليافعين، والتي تعاني في مدرستها موقفا مع رفاقها في غرفة الصف، يتحول فيما بعد الى ترند يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي، تحت وسم هل تسمعني الآن؟، " بصوت مكتوم وبتحديقة طائر كاسر لا ترف له عين "، هل تسمعني الآن؟ أبي عالِم نبات ابتلعه الشغف لمعرفة تفاصيل ظروف حياة النباتات، هل تسمعني الآن؟ والدتي توفت لأعرف لاحقا تفاصيل رحلة ارتباطها بأبي، لتعطيني لمحة عن امتدادي البعيد، "وماذا عن أسلافنا، هل يمكن أن يستمروا في الوجود من خلالنا"، "فالتاريخ موضوع مدهش جدا، فكيف لنا أن نشكل مستقبلنا إن لم نفهم ماضينا"، هل تسمعني الآن؟ التينة ستروي لك بعضا من أحداث قصتي، فالتينة شجرة مباركة على مر العصور، " وفي اليهودية ارتبط الجلوس تحت شجرة التين بتدبّر التوراة تدبرا خاشعا "، حيث إن " الأشجار اكثر حياة مما يدرك معظم البشر "، وكيف تلاحمت الجذور ما بين عرقين سرى العِداء في أوصالهما، الا أن ارتباطهما تشابه مع تشابك جذور الأشجار داخل الأرض لتكون النبتة هجين ما بين (العرق اليوناني والعرق التركي)، لأكون أنا، هل تسمعني الآن؟ ان الشقوق في لِحاء الأشجار وما يدمي عنه من راتنج " ذلك الصمغ السميك الذي يتقطّر من جرح اللحاء "، يتشابه الى حدّ كبير مع قرار فصل جزيرة قبرص عن بقيّة الجزر، بذلك الخط الذي " يسمونه الخط الأخضر ذلك الخط الذي يقسم قبرص ، كيما يفصل اليونانيين عن الأتراك "، لتكون بذلك نائية وحيدة رغم فلسفة التينة، التي تحمل في باطنها الكثير من المواساة " إن الوحدة محض اختراع البشر، فالأشجار لا تشعر بالوحدة أبدًا "، وليتيقّن والدها بعد ذلك بأن " سنبقى وحيدين من دون عائلة ووطن، الكل وحيد، والفرق أننا سندرك ذلك أكثر من غيرنا "، هل تسمعني الآن؟ لم يحدث شيء من هذه الحكاية سوى أنني عرفت امتدادي، هل تسمعني الآن؟ " كانت القواعد هي التي تُعطي الحياة شكلها، والقواعد لا بدّ أن تُطاع ".
لتعرف بذلك آدا تفاصيل لقاء والدها بوالدتها باعتبار أن " الحب هو التأكيد الجريء على الأمل "، وما يحمله الماضي من صراعات وحروف، لتكون وقفتهم إزاء ما يحدث، وتحدّيهم لمخرجات الحرب العفِنة هي حرب أخرى خاضوها مع عائلاتهم التي طالها الإنقسام والفرقة، فكانو يرون أن من ارتباطهم " لا تهنأ عين الربّ "، ليسافرا الى لندن حيث إن " الفراشات ترث الهجرة من أسلافها "، أو كتفسير مختلف وعلى نحو فلسفي قديم لمسألة الهجرة " الطيور في كل شتاء تتحول الى أسماك "، فتكون لهم ابنتهم آدا التي تتساءل عن سبب وحدة عائلتها، وتخلّيها عن جذورها، أو تخلّي جذورها عنها، لتكشف الرواية عن تفاصيل ذلك الاجتثاث الذي حدث نتيجة ويلات صراع الحروب، ولتلتقي أخيرا بخالتها، كاجتماع نسوي حميمي، يؤمن بأن " النساء يحافظن على ثبات العالم "، تجمعهن الظروف المتشابهة " الدنيا ظالمة، لو سقط حجر على بيضة فهذا من سوء حظ البيضة، وإن وقعت بيضة على حجر، فهذا أيضا من سوء حظها "، ولتبدأ بعدها خالتها تسرد لها خيوط الحكاية، بامتدادها ما بين الماضي والحاضر، كذلك " الشاعر الذي يشرّب حكايته بالإثارة "، ولتكمل هي قطع البازل الناقصة من الأحداث المفقودة " لا تبقى كما كنت، ثمة جزء في داخلك يموت، كيما يمكن لجزء آخر أن يبدأ من جديد "، وبجرعة معززة بمزيد من الأمل " لا تقلقي، خلق الله أغصانا خفيضة للطيور التي لا تُجيد الطيران "، وذلك يساعدها بشكل كبير على أن تستمر حياتها مع والدها، الذي اعتادت على نمط حياته، فهي الآن كبيرة بما يكفي لتتفهم مرحلة أبيها العمرية " فحين يكبر المرء يقلّ اهتمامه بصورته عند الآخرين، وعندها تزداد حريته "، وتستمر حياتها محمّلة بذاكرة الحكاية، " لعنة هي هذه الذاكرة الدائمة ".
ولغلاف الرواية حكاية أخرى تختصر المسافة الكونية ما بين الأرض والسماء، وكأن الصورة جاءت استنادا على الأسطورة القديمة، " كان القدماء يؤمنون بوجود دعامة تشق الكرة الأرضية، فتربط ما تحت الأرض بالأرض والسماء، وفي وسط هذه الدعامة شجرة كونية عظيمة عالية، أغصانها عالية، أغصانها تمسك الشمس والقمر والنجوم والمجموعات النّجمية، فيما تصل جذورها الى أعماق المحيط".
رواية تعبر بنا عبر الجسور التي " لا تظهر في حياتنا إلا حين نكون جاهزين لعبورها "، وعبر الحكاية التي عبرت ما بين أزمان الماضي، " إن الإنسان لا بدّ أن ينتبه الى الإشارات دائما "، وتكرار الحكايات فيها من الإشارات الشيء الكثير، لتحاول الإجابة عن تساؤلاتنا الفردية والوجودية، لتقدّم إجابات تقترب من الحقيقة في تلك المسائل التي عجز العلم عن تفسيرها، " هكذا التاريخ، ينتهك المستقبل "، والتاريخ لا تعرفه الا عن طريق الحكايات المرويّة، وهذا ما يفسّر كثرة الحكايات من حولنا وشغف الإنسان الفطري للبحث عن الحكايات من حوله، " هكذا القصص أيضا، تنبت تنمو تزهر، على جذور بعضها البعض "، وليتّسع نطاق بحثه ليعرف حكايات الشّعوب، وليطال فضوله وان كان " مؤقت.. يأتي ويذهب "، تلك الحكايات الكونية الأزلية في سيرورتها وصيرورتها، وكما عبّر عن ذلك أرسطو " رحلة سيرورة الشيء تهرع الى نهاية صيرورته "، وبتساءل جليّ هل نحكي حكاياتنا الخاصة؟، أم هي حكايات من سبقونا نكررها؟ وهل عاشوا هم حكاياتهم؟ أم أنها كانت حكايات الزمان من الأساس، ونقوم فيها بأدوار البطولة فيها ؟ وبحكايات ليست كحكايات ذلك الدبّ " يعرف سبْع أغنيات كلها من العسل "، بل حكايات كتلك التينة " كنت أستمع اليهم في فضول، لكنني أكوّن آرائي الخاصة "، فرغم أن بعض البشر كتلك " الصدفة المتحجرة، منطوية على أسرارها "، الا أنه ومن خلال الحكايات من حوله يجد أخيرا من يسمعه الآن.