العماني ليس طبّالا
ظهر هاشتاق على تويتر «العماني ما طبّال» أحدث شيئا من التجاذبات، كما سبقه هاشتاق حول بعض الألبسة كاللّيسو، مع دخول بعضهم في بعض المكوّنات العمانيّة العرقيّة ومن حيث اللغة واللهجات، وهنا لست وصيّا على أحد، ولكل رأيه وتدافعه، ولكن أيّ مجتمع من المجتمعات لا يوجد على صورة ثقافيّة أو عرقيّة أو لغوية واحدة، فطبيعي في المجتمع الواحد تعدّد الثقافات والهويات، وهذه حالة صحية في الوقت ذاته.
وتعدّد الثّقافات طبيعيّ جدّا أن ينطبق على عُمان؛ لأسباب عديدة، تاريخية ومعاصرة، فهناك البحر بانفتاحه على العالم الآخر، وهناك الجبل والسّهل بتقاليده وثقافاته، كما أنّ تأريخ عمان الموغل في القدم أفرز تنوّعا ما زالت آثاره ظاهرة، ومعالمه واضحة، كذلك الهجرات السكانية إلى عمان طيلة التّأريخ ليست مادّة جامدة متنقلة، بل هاجرت وهي تحمل ثقافاتها وخصوصيّاتها، رغم انصهارها مع باقي فئات المجتمع، كما أنّ العمانيين الذين عاشوا لفترة طويلة في الخارج، وانصهروا مع ثقافات أخرى، رجع من أحفادهم بشيء من ثقافة تلك البلدان.
هذه الثقافات اليوم تعيش أمام موجة العولمة الثّقافيّة الغربية، وهذا طبيعي كما يرى حسن حنفي [ت 2020م] «أنّ العولمة ليست ظاهرة جديدة؛ بل قديمة قدم التّأريخ، عندما كانت تتصدّر حضارة ما كباقي الحضارات وتقود العالم، قام بذلك مجموع الشّرق مرة في الصّين والهند وفارس وما بين النّهرين وكنعان ومصر القديمة، وقامت بذلك الحضارة الإسلاميّة»، إلا أنّ الواقع المعاصر اليوم لانفتاح الإعلام، وتقارب الأقطار؛ أصبح أكثر تأثيرا من السابق، لهذا أصبحت الماديّة المعاصرة، وتأثيرها على ثقافات وهويّات البلدان ما جعل من الكاتب البريطانيّ تشالرز دافي [ت 1931م] تأليف كتابه مشكلات الشّباب، نتيجة توجس وتخوّف من تأثير الماديّة ومفرزات الإعلام حينها على الثقافة والهوية وعلى الشباب في إنجلترا، لتطرح مترجمة الكتاب ليلى الحافي عام 1960م ذات الخوف والتّساؤل بقولها «وما أحسب شبابنا العربيّ إلا موشكا أن يشرف على نفس المشكلات الّتي يعانيها الشّباب في المجتمع الانجليزيّ».
إلا أنّ العولمة اليوم لم ترتبط فحسب فقط بالجانب الإعلامي كما أحدثته الشّاشة غير الملونة بشكل كبير سابقا، فأصبح الاقتصاد اليوم وتصدير السلع أكبر مؤثر على الثّقافات والهويّات، وهذا ما يراه ريتشار هيجوت أنّ «العولمة جاءت في أعقاب الحرب البارة كمرحلة تاريخيّة، وقد تمثل النظير الاقتصادي للصراع الاستراتيجي الثّنائيّ القطب للحرب الباردة عقب الحرب العالمية الثانية في مشروع الاتجاه التنموي فيما بعد حقبة الاستعمار، والّذي استقر من خلاله الاقتصاد الرأسمالية»، كما أنّ الثّقافة الصينية والكوريّة تنافس الثّقافة الغربيّة عن طريق السّوق، وتأثيرها على الهويّة والثّقافة، كانت ممنهجة أو حالة طبيعية، ولم يقتصر تأثير هذه الثقافات عند الإعلام فحسب، وليس تأثيرها على المستوى الأفقيّ بل حتّى على المستوى الرّسمي الرّأسي، فأنت تدخل بعض المدن الخليجيّة المنفتحة على الأسواق العالميّة تجد نفسك داخل عوالم وهويّات وثقافات تغترب فيها هويّة البلد الأم، ويكاد تنعدم.
لهذا نحن نعيش اليوم أمام حالات من انقراض بعض الثقافات والهويات والخصوصيّات، أمام تدافع ثقافات معاصرة ارتبطت بالإعلام المفتوح والأسواق الحرة، ولم يقتصر انقراضها عند الرّؤيّة الدّينيّة السّلبيّة للثّقافات المختلفة، أو الرّؤية الاجتماعيّة المهيمنة لثقافة واحدة كما يحدث سابقا، لهذا العالم اليوم معني بالحفاظ على ما بقي من هذه الثّقافات، واستثمارها إيجابيّا حتّى على المستوى التّعدديّ والسّياحيّ والاقتصاديّ التّنمويّ.
وعلى مستوى الدّولة القطريّة، ومنها عُمان بطبيعة الحال ليست فقط اليوم أمام ظهور بعض الثّقافات المستقرة فيها من القدم، بسبب التّقارب السّكانيّ إعلاميّا وتنقلا، فيستهجن بعضهم ما لم يتعوّد عليه، وهذا ما حدث للشّيخ محمّد بن شامس البطاشيّ [ت 2000م] - كما يردد العديد اليوم -، عندما جاءه «أحد المسؤولين في وزارة التّراث والثّقافة (وفي عام التّراث) عندما طلب منه أن يكتب عن تراث اللّيوا والزّار والنّيروز (على حد قوله)»، فجاوبه بقصيدة مطلعها:
إن كنت تبحث عن تراث عمان وشعارها المعروف في الأزمان
سل عن جلندى والمهنا المرتضى وعن ابن كعب سل وعن غسان
حيث حصر الثّقافة والتّراث في التّأريخ، وهناك فارق كبير بينهما، وإن كانت الثّقافة جزءا من التّأريخ بمعناه الزّمنيّ مع امتداد الثّقافة إلى الحاضر، إلا أنّهما خطّان متباينان، فالتّأريخ مرتبط فيما كان، والثّقافة مرتبطة بإنسان البلد وتنميته وأكله وشربه ولباسه وسكنه وطرقه وفنّه ومرحه ولهوه وتنقله فيما كان وما له تأثير في يومه وغده، فكان السّؤال في اتّجاه، وجاء الجواب في اتّجاه آخر بعيد تماما لا علاقة له بالسّؤال.
ومن حقّ الشّيخ أن تكون له نظرته «حول تراث اللّيوا والزّار والنّيروز»، لكن لا يمكن خلط ذلك بالتّأريخ ومن حكم البلد إمامة أم سلطنة، ولا علاقة بينهما منهجيّا، ففنّ اللّيوا مثلا كما يرى جمعة الشّيديّ في مقال له في جريدة «عُمان»: «نمطٌ موسيقيّ تقليديّ في قائمة أنماط الموسيقى التقليديّة العُمانيّة، ذو سماتٍ ثقافية إفريقيّة، مارسه العُمانيون أوّل الأمر على أرض السّاحل الشّرقي من قارة إفريقيا، وعلى الأخص في موانئ ممباسا وزنجبار إبان الامتداد الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ لأرض عُمان، مارسوه بمعيّة سكان تلك البلاد، ثمّ نقلوه بعد ذلك إلى أرض عُمان الأم ليُصبح أحد أنماط فنونها وثقافتها التقليديّة، ويُمارسه العُمانيون اليوم في مختلف مناسباتهم الاجتماعيّة المختلفة كجزء من ثقافتهم المحليّة».
وتراث اللّيوا ارتباطه بالطّبل وبعض الأدوات الموسيقيّة، إلا أنّ هذه الأدوات حاضرة حتّى عند بعض الرّموز العلمائيّة الدّينيّة، وأبّان فترات حكم من أشار إلى بعضهم الشّيخ، فضرب الطّبل مثلا كما يرى السّالميّ [ت 1332هـ] عن محمّد بن محبوب [ت 260هـ] قوله:
روى ابن محبوب لنا عن صحبه *** بأنّ ضرب الطّبل لا بأس به
ومع محاولة السّالميّ تعليل ذلك لمعانٍ معينة ذكرها في كتابه «جوهر النّظام»، إلا أنّ الطّبل حاضر في فنّ الرّزحات حتّى في عهده، وفي الحروب والأسواق والنّداء للاجتماعات والأعياد وغيرها، «ويشير الشّاعر النّبهانيّ اللّواح إلى انتشار الطّرب [أي الرّزحات وقد يكون أوسع] في مدينة نزوى أيام النّباهنة» كما يحضر أيضًا الدّف في الأعراس عند النّساء، والدّف حاضر في الموالد الدّينيّة عند العديد من متصوّفة عمان، ويحضرها شيوخهم وعلماؤهم قديما وحديثا، ونماذج ذلك عديدة.
وطبيعة الحال لا يمكن حصر الإنسان وثقافته في الطّبل أو الأدوات الموسيقيّة، فهي متعلّقة بجميع أجزاء حياة الإنسان كما أسلفنا، وتتنوع بتنوع الأجناس المختلطة في البلد الواحد، لتتشكل لوحات جميلة من تعدّد الثّقافات في الفنون والمطعومات وشكل اللّباس والأعراف، تماما كتنوّع اللغات واللّهجات وغيرها، ولا يمكن حصر المجتمع في صورة أو زاوية واحدة ضيّقة، ولا يدعي أحد أنّه يمثل المجتمع؛ لأنّ الأصل في المجتمعات التّعدديّة وليست الهويّة الثّقافيّة الواحدة، ولا ينبغي تمديد الرّؤية الضّيقة باسم الأديان أو الإسلام، فالأديان ليست ضدّ تنوع الثّقافات، فهو من الجمال في حياة البشر، متقمصين ومحاكين جمال ما أودعه الله في الطّبيعة، وإنّما جاءت الأديان لمعاني مقاصديّة تحفظ الإنسان، لا أن تعوق سير حياته، وتصهره في صورة واحدة ضيّقة.
الّذي ينبغي الالتفاتة إليه أنّ الدّولة القُطريّة، ومنها عُمان - كما أسلفنا - ليست اليوم أمام ظهور بعض الثّقافات المستقرة والمتدافعة فيها من القدم؛ وإنّما أمام عولمة ثقافيّة مؤثرة بشكل كبير وطبيعيّ، لكنّها أيضا قد تساهم في انقراض ثقافات وتكوّن ثقافات جديدة متهذّبة أو مستقلة عن الثّقافات الحاليّة، فقد يغلب الأقوى الأصلح، ولكن لبقاء الأصلح لا يتحقّق ذلك أمام رؤية منزوية ومنغلقة، وإنّما أمام رؤى متدافعة لتتهذّب، مع الحفاظ على الهويّات من الانقراض، واستثمارها إيجابيّا في خدمة الإنسان والتّنميّة، وإلا فنحن نعيش أمام عوالم في البلد الواحد، وليس أمام عالم واحد، ممّا يجعل المستقبل أكثر تعقيدا لغلبة الأقوى لا الأصلح.