ماذا يُمكن لفيلسوف العلوم أن يقول؟
يبدو لي اليوم أن أي موضوع يخطر ببالي غير جدير بالكتابة عنه. أُفكر أنه لا يصح أن أُشغل بالكتابة عما يُهمني شخصيا مُتجاهلة ما قد يأمل القارئ في قراءته. يخطر ببالي مثلا أنه قد يُهم القارئ أن يعرف شيئا عن علاقة التكنولوجيا والعلوم بالمجتمع كما تكتب عنه دوما هاراواي (وكدتُ أفعل) لكنني عدِلت. يُمكنني بالطبع أن أُجادل عبر المساحة المخصصة لي هنا حول كون المؤسسة العلمية مجرد وجه آخر للمجتمع ترث ما فيه من صفات التحيز، التمييز، وحتى الشر. يُمكنني رسم مفارقة بين العلم الأبوي الهادف للتحكم والسيطرة على الطبيعة وما نتج عنه من حروب نووية، وكوارث بيئية؛ ونقيضه العلم الأمومي الداعي لتحمل المسؤولية، والمُشكك فوق ذلك بالمكانة التي يتخذها العلم باعتباره الوسيلة الموضوعية الوحيدة لاكتساب المعرفة، وإن كان مستحقا لمكانته. لكن بماذا يُفيد هذا؟ أعني أن هذا قد يُهم من يُشغلون مثلي بفلسفة العلوم، لكن ماذا عن طالب علوم الحاسب الآلي، أو فني المختبرات المشغولون بممارسة العلم العادي (كما يسميه «كُون»)؟ بماذا يهمهم نقدنا للعملية العلمية، أو التبعات الأخلاقية لمشاريعهم؟ إننا بالنسبة لهم مجرد عائق، أو بالأحرى صخب غير مؤثر في الخلفية. إنني حين أقول هذا لا أخترع طالب علوم تُسيّره أنانية عمياء لإنجاز عمله بأقل قدر ممكن من الصداع الأخلاقي، لكني أُفكر في نفسي أنا التي درستُ علوم الكمبيوتر لما يعد به التخصص من رواتب مجزية (لا أُنكر أيضا المتعة المتحصلة من استخدام المنطق وحل المشكلات، غير أن هذا على الأغلب كان سببا ثانويا، كنتُ أريد بالفعل دراسة شيء «مفيد»). أقول إنني لا أخترع صورة الطالب المزعوج من هذا «الهراء» ولكني كُنته. وأتساءل هل كنته لأنني وجب أن أكونه تحت ما يُمارس على طلبة العلوم (في كل بقاع العالم وإن بدرجات متفاوتة) من دوغمائية، وما يترتب على هذا من إحساس بقلة الحيلة وانعدام الثقة؛ من أنا لأفتي إن كان يجب أن يتم الأمر على نحو آخر؟ أم أن هناك شيء آخر. تعالوا معي نبحث عما يمكن أن يكون.
لنبدأ من هذا السؤال: بماذا يشعر من يمارس العلم أو يدرسه حين يتم نقد موثوقية العلم أو الطريقة العلمية؟ إما (i) أن يشعر بأن المتحدث باعتباره فيلسوفا لا يعرف عما يتحدث (وإن كان الكثير من فلاسفة العلم ينحدرون من خلفيات علمية، مع هذا فكثير من المهتمين بالعلوم الطبيعية يرون في التفلسف انشغالا أقل شأنا)؛ أو (ii) أن همومه ليست ذات علاقة بالممارسة اليومية للعلم وبهذا تكون خارج اهتمامهم؛ أو (iii) أنهم واعون لعيوب المؤسسة العلمية، لكنهم يختارون أن لا يُفكروا فيها، دافعين بها تحت السجادة وبعيدا عن العين؛ (iv) فريق متعصب للعلوم قد يرى أن كل شيء مبرر إن كان في خدمة العلم حتى وإن لم تكن الممارسة مثالية وأخلاقية بالكامل. يجمع الفِرَق الأربع شعور أن الأمور تسير على ما يُرام كما هي؛ التقدم العلمي يمنحنا كل يوم المزيد من الابتكارات التي تُسهّل حياتنا، يُشخص بنجاح أمراضنا ويُعالجها، بل ويُساعدنا في فهم العديد من ظواهر العالم الحقيقي. لا أُريد الانحدار من هنا إلى رهيتوريك أن «التقدم» لا يضمن سعادتنا، أو أن كل تقنية تأتي بثمنها. فما يُهمني هو معرفة لماذا لا يبدو ممارسو العلم مهتمين بالتفلسف حول نشاطهم. لماذا يعد كثير منهم ما يدور حول النشاط الأكثر تأثيرا في العالم مُجرّد صخب لا طائل منه، و أن الأجدى أن «تروح تشوفلك شيء مفيد تسويه». إنهم يعلمون تماما أن «الرغبة في المعرفة» هي آخر هموم العالِم اليوم، وأن جُل ميزانية البحث العلمي تذهب للمشاريع التي يُمكن تسليعها بطريقة أو أخرى. مع هذا يغضون النظر مواصلين الادعاء بأنه موضوعي ومفيد.
تخيل معي الآن أن مُطورا يقوم بشكل مُستقل بتطوير لعبة فيديو (كونه مُستقل مهم لمثالنا، لأنه إذا كان يعمل ضمن فريق في مؤسسة ما فعلى الأغلب أنه سيكون مُلزما بسياساتها، مما يخليه جزئيا من المسؤولية). من الحكمة بالطبع أن يطلّع هذا المبرمج على الأوراق العلمية التي تشرح أفضل الممارسات التي يجب أخذها في الاعتبار أثناء التصميم والتطوير. يعلم أن هذه الأوراق هي نتاج اشتغال علماء النفس والسلوك بدراسة وإعادة محاكاة السلوك القماري أو الإدماني لإطالة الوقت الذي يقضيه المستخدمون في المواقع والتطبيقات المطورة. إنه يعلم أيضا أن تجاهل العمل بأفضل الممارسات قد يعني فشل اللعبة التي يطورها، والتي يأمل أن تكون مصدر رزقه. يعلم أن عدم استفادته من النتاج العلمي المتوفر يجعله متأخرا عن زملائه، وقد يصفونه بالمثالية لوضع الاعتبار الأخلاقي فوق اعتبار الربح. سيصفونه بأنه مثالي أيضا إذا ما قرر عدم استخدام تقنيات البلوك تشين لاعتبارات بيئية. وهكذا.
أسوق المثال السابق للتدليل على أن ثمة دافع نفسي يُنفر ممارسي العلوم من الفلسفة، ويحفزهم على تجاهل الحديث عن التبعات الأخلاقية الممكنة لعلمهم؛ فالاكتراث لأمور أخرى يضعهم خارج السباق. المنافسة لا تحتمل أن تدرس الأمور بتروٍ، إنها تُشجعك على أن تسير إلى الأمام، أن تتقدم. يجدون أنه من غير العادل أن يترفعوا عن الحيل المتاحة بين أيديهم، فيما يستغلها الآخرون. ينتظرون أن تتكفل المؤسسات القانونية بتحريم تلك الحيل.
تدرس دول أوروبية تقنين الاستغنام (استخدام صندوق النهب loot box) في ألعاب الفيديو، على اعتبار أنها شكل من أشكال القمار. صناديق النهب هي سلع افتراضية تحوي جوائز عشوائية يُمكن اقتنائها عن طريق الدفع المباشر أو عبر النقاط (أو المدخول) الذي يكسبه اللاعب خلال تقدمه في اللعبة. يُجادل البعض أن عملية شراء صناديق النهب غير شفافة (يذهبون لتشبيهها بالقِمار) لأن اللاعب لا يعرف محتوى الصندوق إلا بعد إتمام عملية الشراء. لكن -وإلى أن يتم التقنين- تبقى استراتيجية مُتاحة للتكسب من ألعاب الفيديو. لا يُريد بعض مطوري الألعاب أن يكونوا جزءًا من هذا الجدل أو يُفكروا فيه بشكل جاد؛ فهذا يجعلهم متخلفين عن منافسيهم. يشعرون أن استغلال هذه الثغرة جائز حتى صدور الضوابط، بل الأفضل إن لم يعلموا -من الأساس- بوجود معترضين على صناديق النهب؛ لأن هذا يوفر عليهم اتخاذ موقف أخلاقي من المسألة.
ليس هذا الكلام حكرا على مختبرات الكمبيوتر وحدها، لمختبرات العلوم الطبيعية أيضا حيلها (التي يُمكن مناقشتها بالتفصيل في مقالات أخرى). وليس لي في الختام إلا أن أُشجع ممارسي وطلبة العلوم على التحلي بالشجاعة اللازمة لنقد -والتفلسف حول- مؤسسة العلم التي ينتمون لها.