ما يشبه الضباب في البرية
1- رحيل
أنت لم تغب عن الأرض
أحلامك التي بعثرتها الرياح
في الجبال والوديان
عادت ثانية
مزدهرة بأشجار القرى البعيدة
وها هم أصدقاؤك
كالعصافير
يشعون في خضرتها
2- الموتى
تمددوا بعيدا
وتركوا أسرارهم
في كهوف كثيرة
تغربوا عن المرايا التي كانت
تشف أحلامهم
والجهات التي نمت
فيها خطواتهم
تغربوا
واتسعوا كالطيور في أبديتهم
أخذوا يغنون ويغنون
عن البحر
والذكريات الزرقاء
عن القرى وحكايا الساحرات
آخر الليل
عن الغجر الذين أشرعوا قناديلهم
إلى غيمة لا ترى بالعين
عن موجة الوهم التي دفنت قلوبهم مرارا
عن الخيال العابث
عن الغابات
تمددوا بعيدا
كأن أجسادهم يمامات
خبأها الليل
واستقرت في الظلام
لا شجر يمد ظله إليهم
لا مطر عابر يدرك ما بهم
من عواصف وضباب
لا نسمة تهب عليهم
ولا امرأة تمسد عروقهم
علهم يستعيدون الحياة ثانية
تمددوا بعيدا
وفي أرواحهم الرمل والسديم
الهواء حولهم
بهلوان غاضب
والمدى
خيل ترتعد من رماح الحرب
يشمون الخارج
ولا يدرون
لماذا تركض الريح
وتتكسر الآفاق
لماذا يفر الناس إلى بيوتهم
مذعورين من الغياب
تمددوا بعيدا
وكان في وجوههم
شيء غامض يشبه البرق
ضامئا
كما لو أنه أرنب بري
يلهث إلى مياه باردة
وحارقا
يسفر عن وجع الأيام في خطاهم
تمددوا بعيدا
لم تعد الملامح كما كانت
حانية وبيضاء
البحارة يرون في الأمواج
قوافل الغرقى
الأطفال تحت سقف التعب
يتجرعون الحنين
الشموع ذاوية
أقدام الفجر تسقط في الهاوية
الأشجار حمراء
من ضراوة الصدى
المآذن تهتف للنواحي الذابلة
النوافذ مكسورة
الجبال ملقاة على الشوارع
الحدائق بلا أنوار
كل الأشياء ملتهبة
مثل أصابع الشمس
تمددوا بعيدا
وما تزال أعينهم
مكتظة بالياسمين
علينا أن نكتشف
صولجان الموت في المطلق
علينا أن نكتشف السماء أكثر
كي لا نسقط
واحدا واحدا
ويجرفنا الزمن
3- ذكرى
أتذكرك
حين تمسحين الظلام
وتمسدين الوقت كي يهدأ
أتذكرك
وأنت ترممين منازل الضوء
في دمي
لتعود النار التي تشعلني
وتجعلني مثل النسر
أتذكر
في عينيك
البراءة التي تخطف الأطفال
والنهر الذي يسطع
مترعا بالنجوم
أنت الطرقات الواسعة
في متاهة الأيام
والبحر الشفيف الذي يترك الحياة
بلا أشواك
4- عيسى
ليس قليلا ما كان بيننا
من خطوات حالمة وذكريات
تربينا على توهج العشب
وازدهار المطر
تربينا على الشمس الناعمة
والركض خلف اليمامات
تعلمنا
كيف نصطاد الغيوم في البرية
ونخبر السماء
ما يشاغب أعماقنا
ضحكنا
وطاردنا الوعول والأرانب
وأوقدنا المسافات دون تمائم
كبرنا كما تكبر العصافير
فارغين من الأوهام
لا نفكر بالريح
ولا نستكين في مكان
ليس قليلا ما كان بيننا
طاولنا الجبال
وحلمنا أن نقطف النجوم
ونهديها للفقراء
طفنا على جزر ومنحدرات
دربنا خيولنا على مجابهة الرمال
ساورنا الجهات كلها
واكتشفنا الغدران القصية
جلسنا في أعالي الأشجار
نراقب الساحرات
تأملنا البشر المخطوفين بلا خطايا
في نظراتهم
أسرى وحروب
ومدن غارقة في الغياب
وصحاري جارحة
وأمنيات
ليس قليلا ما كان بيننا
في دمنا ولع الأشياء البعيدة
كأننا خلقنا من طين القمر
كي نفهم الغيب
ونتسامى مع الكواكب
ندرك أن الأرض
بريق النمر في الظلام
وأيامنا
خفة العابر إلى الروايات
خلقنا معا
نحن أجراس المحطات الملتهبة
والمد الأزرق في طوفان نوح
إسحاق الخنجري شاعر عماني