هل العالم بحاجة لنظام مالي عالمي جديد؟ سؤال تجدده الأزمات
كما يقال إن معرفة ماضي الأشياء يمنحك القدرة على تقييم حاضرها... ومن هنا أبدأ.
الحرب العالمية الثانية على وشك أن تُحسم لصالح الحلفاء، مصيرها يتضح يوما بعد يوم، لم يعد التفكير فيها بقدر التفكير فيما ينبغي أن يكون بعدها. أوروبا تكاد تكون مدمرة بالكامل، بنيتها الأساسية، ومعظم أنظمتها السياسية، والأكثر تدميرًا كان نظامها الاقتصادي... المالي منه بصورة خاصة.
في الحقيقة إن النظام المالي الذي استقر لفترات طويلة خلال القرن التاسع عشر على قاعدة الذهب، وسعر الصرف الثابت، جاءت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) فزعزعته، وقوّضت ذلك الاستقرار الذي استمر لعقود، إذ لجأت الدول المتحاربة إلى تمويل احتياجها الحربي بطباعة النقود بكميات كبيرة، متخلية عن غطاء الذهب الضروري، لتجد نفسها بعد الحرب بعيدًا عن قاعدة الذهب التي التزم بها العالم في تعاملاته المالية.
حاولت بعض الدول العودة إلى قاعدة الذهب بعد الحرب، غير أن الفترة الواقعة بين الحربين الأولى والثانية (1919-1939) شهدت أزمات كثيرة وكبيرة حالت دون ذلك، ربما كان أشدها تلك الأزمة التي شهدتها ألمانيا خلال العشرينيات، والتي اتسمت بالتضخم الهائل والركود الاقتصادي، ثم تبعتها الأزمة الاقتصادية العالمية المعروفة بالكساد العظيم والتي بدأت عام 1929 واستمرت لدى بعض الدول حتى أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث انهارت البورصات، وتوقفت المصانع، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي، وخرجت الناس في طوابير طويلة من أجل الطعام في كلٍ من أوروبا وأمريكا.
كان العالم يمشي نحو فخ حرب عالمية ثانية... حتى وقع فيه.
قضت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على ما أبقته الحرب العالمية الأولى، تغيرت أثناءها الكثير من المعطيات الاقتصادية في أوروبا وفي العالم، وصارت الحاجة أكثر إلحاحًا إلى نظام مالي عالمي جديد.
اليوم هو الأول من يوليو من عام 1944، أما المكان فكان في غابات بريتون (Bretton Woods) في نيوهامبشر، الولاية الصغيرة في أقصى الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، ليس بعيدًا تمامًا عن عاصمة المال والأعمال الأمريكية مدينة نيويورك، اجتمع الحلفاء -وقد أدركوا الآن أنها الطلقات الأخيرة في الحرب العالمية قبل أن تحسم لصالحهم- ليخطوا نظامًا ماليًا جديدًا للعالم، ضم الحضور وفود عددٍ من الدول تجاوز عددها الأربعين، غير أن أهمها كان الفريق البريطاني الذي تسلح بالماضي وبتاريخ الجنيه الاسترليني في التجارة الدولية، ويقوده الاقتصادي الكبير جون كينز ( John Maynard Keynes)، والفريق الأمريكي الذي كان يحمل المستقبل بين يديه وهو الرابح الأكبر من الحرب، ويقوده الاقتصادي خريج هارفرد هري وايت (Harry Dexter White).
لم تكن فكرة العودة إلى نظام قاعدة الذهب القديمة مطروحة آنذاك، فالعالم يتجه نحو تحرير التجارة، وتعظيم النمو والإنتاج، وقاعدة الذهب تشكل قيدًا يعيق هذا التحرر الذي يتطلب وفرة نقدية لا يستطيع الذهب المتوفر تغطيتها، ولم يكن بين الدول المشاركة من لديه مخطط لمشروع عالمي جديد باستثناء الوفد البريطاني المتمثل في «مقترح كينز»، والفريق الأمريكي الذي قدم مقترحهم «وايت».
كان كينز يرى أنه لا يمكن بناء نظام مالي عالمي جديد مرتكز على عملة محلية لدولة ما، وإنما لا بد من وجود عملة عالمية يديرها بنك عالمي، لذا فقد اقترح واحدًا أسماه «اتحاد المقاصة الدولي»، واقترح أن يصدر هذا البنك عملته الخاصة وأسماها بانكر (Bancor)، ووضع نظاما تتمكن الدول من خلاله استبدال عملاتها الخاصة بهذه العملة والعكس صحيح، بأسعار صرف ثابتة، حيث تتم المقاصة بين الدول مستخدمين هذه العملة العالمية.
كما اقترح نظامًا -مستخدمًا عملة بانكر- لحل أي اختلال قد يحدث في التوازن التجاري العالمي؛ لضمان عدم وجود دول تقع فريسة دين عالمي كبير على حساب دول أخرى تراكم الفوائض السنوية من التجارة، لذا كان تصميم هذا النظام يدفع الدول الغنية والفقيرة -على حد سواء- لعدم تراكم فوائض أو عجوزات في ميزانها التجاري.
مقترح كينز كان مقنعًا لمعظم الوفود المشاركة، غير أن الوفد الأمريكي رأى خلاف ذلك، وكان ذلك كافيًا لعدم الأخذ بمقترحه على محمل الجد.
كان من الواضح تأثير القوة الأمريكية على هذا اللقاء، أمريكا الفائز الأكبر من الحرب العالمية الثانية، وهي القوة الاقتصادية الصاعدة في وقت تأفل فيه شمس الإمبراطورية البريطانية، إذن على الدولار أن يحل محل الباوند البريطاني، غير أنه هذه المرة بقوة أكسبته إياها منظمات دولية، وسلطة أمريكية.
تراجع المقترح البريطاني أمام الضغوط الأمريكية، كان «وايت» صارما تجاه أي مقترح يعرقل مشروعه، ووُقعت معاهدة «برتن وود» في شهر يوليو على معظم ما جاء في المقترح الأمريكي.
ولد نظام مالي عالمي جديد، أقرّ هذا النظام ربط جميع العملات بالدولار الأمريكي، وربط الدولار بسعر ثابت بالذهب، مما جعل للدولار تفوقًا على جميع العملات، وهذا ما شجع الدول على شرائه للاحتفاظ به كاحتياط يمكنها استبداله بالذهب متى شاءت ذلك.
لم يقدم المقترح حلًا لمعالجة الاختلالات التي يمكن أن تحدث في التوازن التجاري بين البلدان، وما قد ينتج من تلك الاختلالات من ديون، وإنما ترك حل هذه المسألة على الدول المدينة لتعالجها وفق سياستها المتاحة، غافلًا أنه من الصعب على الدول التي تقع في فخ الديون توليد فائض تجاري، بل اقترح إنشاء صندوق استقرار دولي، ليصبح لاحقًا صندوق النقد الدولي، والذي يراه كثيرون سببًا لأزمات عالمية متلاحقة، ولا يخفى ذلك الخلاف على دور الصندوق، واتهامه بتأجيج الأزمات، واقتراح حلول -وفرضها في بعض الأحيان على الدولة المدينة- تضعف الاقتصاد، وتفاقم من مشاكله في سبيل تسديد الديون، ومعالجة الاختلال التجاري.
يرى عدد من الاقتصاديين والمؤرخين أن تجاهل مقترحات كينز المبتكرة فوت على العالم استقرارًا اقتصاديا عادلا بين دول العالم، وأن وايت ومن معه من الفريق الأمريكي كان سعيهم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ضيقة قد لا تتجاوز أمريكا لدول العالم المشاركة في هذه النظام الجديد، ولكن كما علق أحدهم ردا على صحيفة الإيكونيميست التي كتبت آنذاك: «أن العالم سوف يندم بمرارة على حقيقة أن حجج كينز قد رُفضت»، العالم لا يندم على أمرٍ نساه.
ربما كان أشهر المواقف التي اتخذت ضد النظام الجديد تلك التي اتخذها أستاذ جامعة ييل (Yale University الاقتصادي الأمريكي من أصول بلجيكية روبرت ترفن (Robert Triffin) عندما علّق: «ولد هذا النظام مُشوهًا، ولد وهو محكوم عليه بالفشل»، كان ترفن يرى -كما رأى كينز- أن تحويل الدولار لعملة عالمية تستخدم كعملة احتياطية سيجعل أمريكا دولة مديونة، تعاني من أكبر عجز في الحساب الجاري في العالم، وعليه فمن الصعب بناء نظام مالي عالمي يرتكز على عملة دولة مديونة، يصعب عليها أن توازن بين احتياجها المحلي من العملة، وبين الاحتياج العالمي لعملتها المحلية، وهذا ما عرف لاحقا بمعضلة ترفن (Triffin Dilemma).
يبدو أن ترفن كان محقا في ذلك، فقد تحولت أمريكا من دولة دائنة في أعقاب توقيع اتفاقية برتن وود إلى دولة مدينة تجاوز اليوم حجم دينها العام 30 تريليون دولار، وكان من الممكن أن يكون ذلك كارثيًا على أمريكا كما يرى ترفن، لكن الاقتصاديين والساسة الأمريكيين راهنوا على قوتهم التي يمكنها أن تنقض أي عمل يمكنه الإضرار بالاقتصاد الأمريكي، وسلطتهم في المنظمات الدولية الوليدة، كما أنهم أدركوا أن حماية الدولار ستكون مهمة عالمية بدل أن تكون عبئا أمريكيا صرفًا، إذ أن العالم يحتفظ بالدولار كاحتياطات نقدية وليس من صالحه أن يخسرها، ولذا لن يكون انهيار الاقتصاد الأمريكي سهلا بصرف النظر عن حجم الديون المتراكمة عليه.
منذ أن قام النظام العالمي الجديد والعالم يمر بأزمات مالية واقتصادية متلاحقة، خلال العقود القليلة التي لحقت توقيع الاتفاقية قامت أمريكا بطباعة أعداد كبيرة من الدولارات لتمويل حروبها الخارجية ولشراء أصول أجنبية، مما جعلها عاجزة عن الوفاء بالتزامها تجاه حق الدول في تحويل احتياطاتها من الدولار للذهب، مما دفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1969-1974) في عام 1973 إلى وقف صرف الدولار بالذهب بعد سلسلة من الإجراءات عُرفت بصدمة نيكسون (Nixon shock)، ليكون بذلك الإقلاع الأخير الذي لم يعقبه عودة إلى مرفأ الذهب المرتبط بالعملات.
حدثت الكثير من الأزمات المالية والاقتصادية بعد ذلك في كل قارات العالم، كان أشدها وقعا على آسيا، وإفريقيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية (2007-2008)، انكشفت فيها معظم دول العالم المشتركة في شبكة الاقتصاد العالمي، وقد كان طرفا فيها نظاما ماليا عالميا هشا مُسيسا لصالح القوى العظمى في العالم، ومتكئا على اقتصادات رئيسية تعاني من اختلالات هيكلية يمكنها أن تطيح يوما ما بكل النظام، ولمن لا يحبون نظرية المؤامرة (Conspiracy theory) فإن الحديث هنا عن عالم يرفض الفراغ وتتنازعه مصالح سياسية واقتصادية.
ربما الأزمة الروسية-الأوكرانية اليوم، وما تبعها من عقوبات فرضتها أمريكا وبعض دول أوروبا الغربية مستخدمة سلاح الدولار، وبعض أذرع وأدوات النظام المالي العالمي، وقدرة روسيا -في الطرف الأخر- استخدام حق النقض لإجهاض أي قرار يُراد له أن يصدر من مجلس الأمن، يعيد إلى المشهد السؤال بشأن ضرورة تغيير النظام المالي العالمي الجديد، بكل ما فيه من مؤسسات عالمية، وسياسات وأدوات مالية، وأنظمة صرف واحتياطات نقدية.
وأختم الحديث بما قاله أستاذ الاقتصاد مستشار صندوق النقد الدولي جراهام بيرد (Graham Bird) في إحدى قاعات جامعة كليرمنت الأمريكية في شتاء 2014: إن العالم يعلم بوجود اختلالات هيكلية في النظام المالي العالمي، وبحاجته للإصلاح الجذري، غير أنه عند كل أزمة يقول أن أولويتنا الآن هو إخراج النظام من الأزمة، فإذا خرج قال العالم ما الداعي لتغيير نظام قادر على الخروج من الأزمات.
سالم آل الشيخ - مدير المكتب الوطني للتنافسية بوزارة الاقتصاد