شيفرة الأصالة
يعيش الإبداع معنا على كوكب الأرض، فينطوي عليه ما يكون من خواص للكائنات الحية، من تفاعل مع البيئة يتلاءم مع معطياتها، حتى بات الإبداع مشابها لما حوله، والأكثر التصاقا به وأبعد عن الواقع حتى؛ هي جذور الماضي التي كانت بذورا تحمل خواصه أيا كانت طفرته الجينية وتفرده وأصالته، ومهما حاول التحليق عاليا فإنه يظل حبيس طبقات الجو الحيوية التي اعتاد عليها، فيظل الإبداع يسبح في فضاءات عقولنا وحياتنا على نحو مشابه للموروث والبعد الحضاري والبيئي، حتى قيل لا يوجد عمل أصيل بنسبة كاملة النقاوة تماما، وأن كلمة الأصالة ذاتها لا يمكن تحقيقها إلا على نحو طفيف ومتلاحق، في منظومة الاستمرارية الكونية فهو محكوم بإمعان بما جاء قبله من تراثيات العلوم وتجارب الأمم السابقة أو الإبداعات الفردية المسجلة.
لا وجود للأصالة الصرفة، لكم هو مؤلم للأصالة ذاتها أن لا تكون متحققة في كينونة متفردة، فهي وجدت لتكون أصيلة إلى الحد الذي يتحقق فيها معناها، فيظل المبدع حائرا أمام محاولاته الإبداعية، والتي ما أن تعلو السطح حتى يكتشف بأنها شبيهة لأفكار سابقة، أو أن تكون قد طرحت فعلا وتم التوصل إليها وإثباتها حقا.
المبدعون وحدهم يعرفون جيدا كيف أنه من الصعوبة توليد الأفكار الجديدة، والإتيان بخبرة جديدة كليا منفصلة تماما عن الموروثات السابقة، وعن توجهات المحيطين في المجتمع الواقعي، فأصبح مصدقا لمقولة أن الأصالة لا يمكن أن تتحقق.
يرى العاملون في مجال الإبداع أن ذلك الكم من الأفكار والابتكارات تسبح في محيط تماهت فيه مئات الإبداعات المشابهة، وما ينفرد أحدها سوى بعلو موجة أو انخفاضها، ولكنها متصلة إلى حد كبير بذلك البحر الكبير الموروث المتنامي عبر السنين ليس ماديا فحسب لكن يتجاوزه الى المستوى البيولوجي.
وبسبب ذلك التوق الشديد، والشغف المؤلم الذي يلاحقه المبدع أيا كان مجاله فيظل ينقب عن الأصالة التي يرتبط إبداعه بصفتها، طامحا في فكرة الأصالة الأصيلة المتحققة فعلا، المتحررة من منظومة التراثيات وتراكمات الخبرات وأفكار الآخرين المحيطة بك، لتكون إلى الحد الذي يشبه هويتك، الفكرة ورؤاك الخاصة على نحو صاف لاستحقاق صفة الأصالة عن جدارة، فيظل يسعى لتشرق حقا شمس الأصالة، لكن كيف يمكننا حقا تحقيق الأصالة الصرفة والتفرد بالأفكار التي تحدث القفزات التطورية الهائلة؟
ولأن الأصالة تظل فكرة مجردة غير ملموسة، فهنا يتسع المجال لكل الساعين لها أن تكون لهم فكرتهم وتوجهاتهم الخاصة بهم، حيث أن التجربة الذاتية تظل هي المعيار الأول لأن يحكم على العمل الإبداعي بالأصالة، وستكون تلك التجربة الذاتية اكثر تحررا من تبعات المخلفات وموروثات الفكرة السابقة، فالمبدع بحاجة إلى مرحلة إطلاق الأفكار قبل المعرفة الفكرية وبعدها، ليضمن عدم تأثره بما تم تدوينه من معلومات سابقة تضمنتها صفحات الكتب.
واضعا عينه على البداية المتحررة، وعينه الأخرى على تصوره نحو النهاية والهدف المتحقق، ساعيا نحو الدهشة والتي لا تكون إلا بحداثة الفكرة وجدتها وتفردها، حيث لا شيء مدهش في تلك الأشياء التي ألفها الناس وعرفها.
كما أن محاولة تفكيك المهارة بأشكالها إلى عناصرها الأولية، ثم إلى جزيئات أكثر دقة وإعادة كل من تلك الأجزاء للخامات الأولية، فإن المبدع سيكون أكثر قدرة على إنشاء ترابطات جديدة عبر دمج غير مسبوق ليتحقق جزءا من تلك الأصالة المنشودة، والتي يبتعد فيها عن تقليد الآخرين من أجل العودة إلى الهوية الأصيلة، وتظل الرؤية بعيدة المدى وبآفاق أبعد عن المألوف مع إسباغها الدلالات والأهداف الإنسانية، ودمج كافة جوانب الأهداف يجعل من شيفرة الأصالة أمرا يمكن تحقيقه لا محالة.