نوافذ: لإزاحة سوء الفهم
حظيتُ بصداقة فتاة صماء في وقت ما من حياتي، تعلمتُ بفضلها بعض الإشارات التي تتعلق بالسؤال عن أحوال بعضنا البعض وعن ألعابنا المفضلة. في الحقيقة لم أكن قادرة على تصور حياتها، لقد ولدتْ دون أن تُصغي لأي صوت، ولم يكن بإمكان إشاراتي المتواضعة أن تنقل إليها أحاسيسي إزاء زقزقة عصفور، أو طرطشة ماء الفلج أو زعيق عجوز غاضبة من فوضانا النهارية. كما لم تكن هي أيضا تعرفُ شيئا عن الإيقاع الذي يجعلُ أجسادنا تتقافز كضفادع فرحة، ونحن نُصغي إلى "تتر" مسلسلاتنا الكرتونية.
تستعينُ بعينيها الواسعتين لتعرف ما يدور حولها، عندما لم يكن باستطاعتها قراءة الكلمات المُتسارعة على شفاهنا، فلم نعي بكل شقاوتنا آنذاك كم تُرهق نفسها لتفهم الحركات التي نبتكرها لنقرب لها فكرة ما.
استعدتُ هذه الرفقة المتنائية في الذاكرة عندما شاهدتُ فيلم Coda، فقد غنتْ الابنة "روبي" في حفل مدرستها بحضور عائلتها المكونة من أبٍ وأمٍّ وأخٍ مُصابين جميعا بالصمم. فبينما يُصغي الحضور إليها بانتباه شديد، كانت عائلتها الصماء تتلفت، بل تحدثوا بالإشارات فيما بينهم عن الطعام الذي سيعدونه لاحقا. لكن وفي لحظة مؤثرة، مكنتنا كاتبة ومخرجة الفيلم "سيان هيدر" أن نشعر بما يشعرون، لدقيقة واحدة فقط، توقفتْ الأصواتُ بصورة مُباغتة، فجرحنا الصمت وعبث بنا.
الابنة "روبي" كانت أُذن العائلة وصوتها، المتحدث الرسمي لهذه العائلة التي تعيش على صيد السمك، وكان ينبغي عليها أن تزيح أحلامها الشخصية جانبا من أجل العائلة التي لا تستطيع أن تمارس حياتها الطبيعية ومهنتها دون شخص غير أصم.
لم تخلُ حياة روبي من التنمر بسبب وضع عائلتها من جهة ورائحة السمك التي تفوح منها، ولكن ذلك لم يُعطل للحظة التزامها الجاد اتجاه أسرتها.
الغناء كان وسيلة "روبي" المُضادة التي تُخرجها من صمت العائلة، الغناء يُؤكد اختلافها وقدرتها على الاندماج مع العالم. وفي لحظة ما كان عليها أن تُحول الأغاني إلى لغة الإشارة، ليتمكنوا هم أيضا من الإمساك بالإحساس الذي يُشعر به الناس العاديون.
ما كنتُ أشعرُ به اتجاه صديقتي هو أنّ انعدام اللغة بيننا كان يولد سوء الفهم طوال الوقت، لكنني أدركتُ أنّ تفهمي كان قاصرا، وذلك عندما سألتْ "روبي" أمّها، إن كانت قد تمنتْ أن تولد "روبي" صماء مثلهم، ففاجأتنا الأمّ بأنّها كانت تتمنى لو أنّ ابنتها ولدت صماء حقا، لأنّها عانت من قبل مع أمّها من انعدام التفاهم بينهما، ورجحت أنّ وجود ابنة معافاة في عائلة صماء سيولد المزيد الفرقة.
تظن الأمّ أن ابنتها ينبغي أن تكون مثلها لتحقيق التفاهم، بينما "روبي" صنعت معجزة في حياة عائلتها. لقد كانت تحاول طوال الوقت أن تساعد على انضمامهم إلى المجتمع الطبيعي، عوض اكتفائهم بأقرانهم من الصم والبكم.
لقد أيقظ الفيلم صديقتي القديمة، تلك التي كُنا نُقرب وجهات النظر بيننا عبر الرسم، حيث لم تتمكن من الكتابة ولم تدخل مدرسة عادية مثلنا.
لا أعلم شيئا عن توقعات صديقتي وأحلامها، كنتُ عاجزة عن سؤالها، ولم تكن بحوزتي إشارات كافية للحوار. لكن والد "روبي" وضع يده على حنجرة ابنته وتلّمس أحبالها الصوتية وتلك الذبذبات المتوهجة بالصوت الذي يجهله. أراد أن يعرف لماذا كان العالم يصفقُ لابنته، ولماذا كان مدرس الموسيقى يهنأه بمستقبلها القادم.
لقد تفاجأتُ عندما قرأتُ بأنّ العائلة الصماء التي أدت الأدوار في الفيلم هي صماء في الحقيقة. لقد قدموا أدوارهم بإقناع هائل. وبعدها أدركتُ أنّ الممثلة الشابة التي رافقتهم "ايميليا جونز" بدور "روبي" اجتهدت كثيرا لتؤدي دورها. لقد كانت صامتة هي الأخرى وعليها أن تقنعنا بلغة الإشارة بمتانة أدائها وتعودها منذ الطفولة على العيش بينهم. بينما لم يتسع لي الوقت والضجر الطفولي لأفعل أمرا مُشابها مع صديقة الطفولة. كنتُ أشعرُ بأنّ اللغة حاجز فولاذي بيننا!
"Coda"الفيلم المؤثر والحائز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم روائي طويل، يُعيد الاعتبار لهذا الهامش الذي يُشكل جزءا من واقعنا، فالصم والبكم يعيشون بيننا ويملكون هموما وأحلاما، ولكننا قلّما نلتفتُ إليهم أو نفكر بتعلم لغتهم، لتصبح بيننا أحاديث وحكايات، ولنزيح المزيد من سوء الفهم بيننا.