التخلق الحيوي للفكرة

08 مايو 2022
08 مايو 2022

للحديث عن حيثيات تخلّق الفكرة وصناعتها كشرارة حيوية، نعود إلى ما هو أبعد من أفكار البشر الخاطفة، إلى جذور التنشئة الأولى إلى التخلق الحيوي للخلية، والتنامي الخلوي للخلية الأم وأصل الحياة، وعلى نحو مشابه للمقولة "كل الحياة تأتي من بيضة"، والتي بعد أن أصبحت مهيأة للتشكل عبر نسيج حي بأمر من الله عز وجل، لترى من حولك كمية التنوع الحيوي البيولوجي، وكما يقول عالم الكيمياء لويس باستور "إن الحياة هي الشيء الوحيد الذي من شأنه أن يحفز التخمير"، وذلك عبر تطور فسيفسائي نمطي متنامٍ، باعتبار شوارد الفكرة العابرة بدائيات مستحثة وافرة القدرة.

لا نعيد الفكرة إلى خطوات صناعتها الرئيسية، المتمثلة في الإعداد والاختمار والتحقيق فقط، إنما نضع في الحسبان دور الإلهام والتفكر في تخمر الأفكار، لتتولد لديك الفكرة الإبداعية الجديدة عبر مسالك غير مرئية، لتطفو بعدها على السطح، غير متجاهلين دور تلك العملية النفسية العميقة في بناء أعظم الأفكار على الإطلاق، ليكون بناء الفكرة من حولك على نحو عقلي وحسي على حد سواء، فبلا شك فإن لحظة الإلهام تلك تكون كومضة سريعة خاطفة، إلا أنها لا تأتي إلا بعد تفكير مطول، اختمرت فيه الفكرة لتظهر على هذا النحو المميز الأصيل.

يتساءل كثير من الناس كيف للمبدعين والعباقرة كل هذه الأفكار، في حين أنهم غير قادرين على توليد فكرة واحدة جديدة متفردة وأصيلة في إحدى مجالاتهم البسيطة، وقد يرجعون ذلك إلى القدرات العقلية لأولئك المبدعين، كونهم امتلكوا خواص جينية مميزة تؤهلهم للخلق والابتكار والإبداع، بينما العلم والمبدعون أنفسهم يقولون عكس ذلك، وكما يقول هلفتيوس: "العبقرية ليست أكثر من تركيز الذهن".

فصناعة الفكرة الأصيلة الإبداعية شأنها شأن بقية المهارات الأخرى تأتي مع المران والتدريب، ونحن بذلك لا نقصد تلك الأفكار العشوائية العابرة إنما تلكم الأفكار الإبداعية، التي تحدث التغيير وتدفع بعجلة التطور إلى الأمام.

وليست الفكرة الإبداعية سوى بناء الفكرة تلو الفكرة، فأنت أمام طريق لا نهائي من الأفكار الحرة، وما عليك سوى مواصلة طريق رسم الفكرة، لكي تصل إلى أبعد ما وصل إليه غيرك، وأبعد مما تصل إليه الفكرة وتتجاوزها، وما عليك سوى أن تنير الطريق بالتساؤلات، وتجتاز مراحل تكوين الفكرة عبر تجاوز الحدود والتأمل والتفكير العميق، والانغماس في كل ما من شأنه إثراء الفكرة.

وكما يقول مدربو التنمية البشرية عن الشيفرة التدريبية لأي مهارة؛ فإن صناعة الفكرة الإبداعية لا تكون إلا عبر سلسلة من الأفكار البسيطة، التي تبنى فوق بعضها البعض كالبناء المرصوص، للوصول إلى فكرة ببناء متين وأصيل، يرى جوش كوفمان بأن عشرين ساعة فقط كفيلة بتعلم أي مهارة جديدة، وذلك عبر أربعة خطوات رئيسية وهي: تفكيك المهارة والبداية الفورية والتخلص من الأمور المشوشة والاستمرارية على مدار شهر كامل وبما يعادل 20 ساعة تدريبية.

وحيث إن ذلك الطوب الذي يرص فوق بعضه البعض، أو الأفكار لا تأتي بمعزل عن بقية الأفكار والخبرات والذكريات والمعلومات السابقة، وما هي إلا منظومة بنائية معرفية تراكمية تختمر فيها الخبرات، فتكون مادة أولية لتبدع من خلالها فكرة جيدة خلاقة، وكلما كانت لديك خبرات تراكمية أكثر أصبحت قادرا على توليد أفكار وافرة ومميزة عبر رحلة التخلق الحيوي للفكرة.