رؤية جديدة.. لتراثنا القديم
ينحو كثير من القراء إلى اعتبار الفقه والكتب الفقهية مادة جامدة لا تُتَناول أو تُقرأ إلا من منظورها الديني الشرعي فحسب، غافلين عما لكتب الفقه من أثر ودور في تسيير الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات المتدينة، وبالأخص المجتمع العماني الذي -وببالغ الأسف- لا تتوفر فيه المصادر التاريخية بنفس القدر الذي للموسوعات الفقهية فيه من حضور، فقد لعب الفقه فيه دورا محوريا تجاوز ما ذكرته في مطلع هذه المقالة؛ ألا وهو دوره في تدوين التاريخ العماني وإن بشكل مقتضب أو بذكره لحالات بعينها أثّرت في الخلافات الفقهية وما تبع ذلك من حراك سياسي اجتماعي اقتصادي.
ينظر كثير من القراء اليوم إلى من يقرأ الكتب الفقهية القديمة -ممن لا تخصص له فيه- نظرة تعجب واستنكار، بل ويذهب كثير منهم إلى أن قارئ هذه الكتب مُغيَّب منفصل عن واقعه؛ ناسين أن على المرء أن يقرأ في كل مجال فيستفيد منه ويستعين به في هذه الحياة، فكما يقول الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد في كتابه «الفصول» الصادر عن مؤسسة هنداوي «يقول لك المرشدون: اقرأ ما ينفعك. ولكني أقول: بل انتفع مما تقرأ، إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟.. إن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة، يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يدل على جودة القابلية». ص95.
فالذكي ينتفع مما يقرأه أيا كان ذلك الفن، والأحمق من يحصر نفسه في زاوية ضيقة يرى منها العالم، كمن يرى الكون من ثقب باب غرفته الصغير.
يجد المرء في كتب الفقه العمانية فنونا، لا فنا واحدا فحسب. فمن يقرأ الجزء الأول -على سبيل المثال- من الموسوعات الفقهية ككتاب الضياء للعوتبي؛ يجده يورد مقولات لأرسطوطاليس وأفلاطون الإغريقيين وأزدشير وبزرجمهر الفارسيين. فنخلص من ذلك أن هؤلاء الفقهاء كانوا أكثر انفتاحا وأوسع رؤية ممن يحكمُ على كتبهم اليوم بالجمود والتخلف. كما أنني أخص بالذكر الأجزاء الأولى من هذه الموسوعات الفقهية، لما تشتمل عليه من حكمة بالغة وشحذ للهمة الفاترة، فيجد طالب المعرفة فيها تجديدا لروحه ونشاطه، وهي تشبه تأثير ما يُعرف بكتب التنمية الذاتية اليوم؛ إلا أنها أفصح عبارة وأبلغُ معنى. ففي كتب الفقه القديمة يجد المرء لغة عذبة فيّاضة روحها مشتعلة حية. فيخرج منها بلطيفة لغوية، أو عبارة تصف حال اليوم كما لو أن الزمان آنذاك هو الزمان اليوم، ولكن هذا منطلق من كون الإنسان هو الإنسان وهمومه هِيَ هِيَ إنْ بالأمس أو اليوم.
ولو تفرّغ لهذه الكتب بُحّاث متمكنون، لخرجنا منها ببحوث ذات فائدة عظيمة. ومن الأمثلة على ذلك، كتاب «أثر الفقه العماني في السلوك المجتمعي» لنبال خماش وأحمد النوفلي الذي كتب عنه الباحث بدر العبري في مقال له بجريدة الوطن «الكتاب في ذاته من الكتب الفريدة، ومن الأبحاث النّادرة الّتي جمعت بين الفقه العمليّ وبين علم الاجتماع كعلم ومباحث تأصيليّة، ولهذا أرى الكتاب مادّة خصبة للدّارسين في هذا الباب، والرّاغبين في البحث، ومن أراد البحث في هذا لا يمكنه الاستغناء عن هذا الكتاب، وقراءته تدل على جهد بذل فيه المؤلفان وسعهما لتقديم رؤية اجتماعيّة للفقه والتّراث العمانيّ».
كذلك كتاب «المجتمع العُماني في القرنين (4-5هـ/ 10-11م) من خلال بعض مسائل بيان الشرع» للدكتورة أحلام الجهورية التي تتحدث عن هدفها من الكتاب في مقال لها عنه في مجلة الفلق الإلكترونية قائلة:
«هدفت هذه الدراسة إلى التعرف على المجتمع العُماني في القرنين (4-5هـ/ 10-11م)، من خلال كتاب بيان الشرع الجامع للأصل والفرع للشيخ الفقيه محمد بن إبراهيم الكندي (ت: 508هـ/ 1115م). حيث تم التركيز على رصد وتتبع بعض المظاهر والصور الاجتماعية المتنوعة في المجتمع، منها: تصنيف فئات المجتمع العُماني بحسب ما أوردته الفتاوى والمسائل الفقهية. والتعرف على أهم القضايا الأسرية والنزاعات المجتمعية، بالإضافة إلى توضيح مكانة المرأة الاجتماعية ودورها الاقتصادي وحضورها العلمي في المجتمع. ورصد صور متنوعة من العادات والتقاليد في المجتمع العُماني في الفترة موضوع الدراسة».
حاولت جهدي لأن أجد دراسات جادة حول الموضوع المطروح غير الدراستين المذكورتين، إلا أنني لم أوفق لذلك. وهذا يعضد ما طرحته من وجوب دراسة المدونات والموسوعات الفقهية العمانية دراسة شاملة تبحث في الإنسان والمجتمع في كل حقبة من الأحقاب التي كُتبت فيها تلك الموسوعات، فهل يجود لنا المستقبل القريب بقراءة أبحاث جديدة في تراثنا القديم؟
علاء الدين الدغيشي كاتب عماني