اعتداءات المسجد الأقصى
لا يكاد يأتي رمضان كلّ عام إلا وتصاحبه ذكريات أليمة حول وضع الشّعب الفلسطينيّ، ولا زالت آثار رمضان الماضي 1442هـ باقية، من قتل وتدمير وتجويع وتشريد في غزّة خصوصا، واليوم الوضع ذاته يتكرر من اعتداءات على المصلّين في المسجد الأقصى، أمام مرأى ومسمع من العالم.
لقد مرت سنوات طوال، وعقود مظلمة من الصراع، ومشرّفة في الوقت ذاته، أي أنّها مظلمة بما تحمله من ظلم لشعب أعزل، وقف العالم ضدّه حينا من الزمن، ومشرّفة لثباته ونضاله وصبره لأجل عزّته وكرامته، وتربة وطنه.
ولولا أنّ العالم وقف خجلا أمام ما يفعله الصهاينة بهذا الشعب، من تأييد من جهة، وبيانات خجولة من جهة ثانية، لولا هذا لما استمر هؤلاء في طغيانهم وتمدّدهم، واستعلائهم على أمّة حوصروا في ديارهم، وحاصرهم العالم أجمع إعلاميّا وعسكريّا واقتصاديا.
إنّ المسجد الأقصى كغيره من مقدّسات الأمم، سواء في فلسطين أم غيرها، يجب أن يبعد عن الصّراع، وتحفظ مكانته وكرامته التّعبديّة والقدسيّة، وأن يكون موضع أمان، كغيره من مقدّسات النّاس، دينيّا، أو ما يخدمهم مجتمعيّا كالمدارس والمستشفيات والجمعيات والطّرقات، فهذه الاقتراب منها جريمة إنسانيّة وأخلاقيّة، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} «الحج/ 40».
ولا يعني هذا بحال أنّ الحجر أغلى من الإنسان، ولكنها موضع أمان لهذا الإنسان، والاقتراب منها جريمة تأنفها الفطر السّويّة، وترفضها العقول البشريّة، وتخالف مواثيق الأمم والشّعوب طول التاريخ، وإلا فالأصل الاقتراب ممّا يؤذي الإنسان جريمة في ذاته، وهذا ما حكاه القرآن عن التّوراة ذاتها، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} «المائدة/ 32».
إنّ الإنسان الفلسطيني ليس نشازا عن باقي البشر، لقد سئم من الفرقة والتّشريد، والحصار والتّجويع، والاعتقال والحبس، حتّى حدود ما بعد نكسة 1967م، والّتي سميت بحلّ الدّولتين، لقد ظلم هذا الشّعب بإعطائه أقل من الثّلث من حدود بلده، ومع هذا الثّلث فقد قسّم إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج) بعد اتفاق أوسلو الثّاني 1995م، والسّلطة الفلسطينيّة الحاكمة ليس لها من أمر السّيطرة الأمنيّة والمدنيّة الكاملة عدا ثلاثة بالمائة فقط، بينما لإسرائيل اثنان وسبعون بالمائة من السّيطرة الأمنيّة والمدنيّة، والمتبقي مدنيّا للفلسطينيين من حيث السيطرة، بينما أمنيّا لإسرائيل.
فهذا الشعب بهذا التقسيم الظّالم يُقتل في بلده، ويمارس ضدّه كافّة أنواع الاستبداد والطّغيان، ويتجاوز ذلك حتّى أماكن عبادته ومقدّساته، وما يتعلق بالجانب الخدميّ والإنسانيّ، في مشهد واضح لا يحتمل التّأويل والتّبرير.
وهذا الاستبداد والقمع ضد هذا الشعب وما يقوم به اليمين الصهيوني المتطرف هو ما صرّح به من اليهود أنفسهم في إسرائيل ذاتها، كالنّاطوريين، وأوري أفنيري «ت 2018م»، وإسرائيل شاحاك «معاصر»، وغيرهم.
لقد استطاعت وسائل الإعلام عموما، ووسائل التّواصل الاجتماعي خصوصا أن تنقل هذه الصّورة الحقيقيّة لما يمارس داخل الأرض من استبداد واضطهاد، حتّى في الأماكن المقدّسة والخدمية؛ استطاعت نقل ذلك كما هي، ممّا وسّع في نشر الصورة الحقيقيّة أمام العالم، في زمن كان يتحكم في الإعلام فئة من النّاس، فيخفون ممّا يفعل في الإنسان الفلسطيني من ظلم وطغيان واستبداد الّذي قلّ نظيره في التّأريخ أجمع.
لهذا كما أسلفت أصبحت الصّورة اليوم واضحة في جوّها الإنساني، لا ينبغي السّكوت عنها، أو تأويلها بعيد عن حقيقتها وإنسانيّتها، فالإنسان الفلسطيني كغيره من البشر، له كرامته ومكانته في وطنه وخارج وطنه، ومن حقّه الإنسانيّ في الحفاظ عليه، وتحقيق حرّيّته وكرامته ومكانته داخل بلده، ونضاله لتحقيق ذلك ليس إرهابا ولا نشازا وتطرّفا، بل هو طبيعة إنسانيّة ترفض الذّلة والاستبداد والصّغار.
إنّ الجوّ الإنساني والدّفع به قدما، فكريّا وعمليّا، أصبح أكبر داعم اليوم للبعدين القومي العروبي، والديني عموما، والإسلاميّ خصوصا، في التّحرك عمليّا للحفاظ على هذا الإنسان الفلسطينيّ، وتحقيق كرامته، وتمكين حقوقه، والحفاظ على مقدّساته وخدماته، ولا يقف ذلك عند الخطابات والبيانات، بقدر ما يكون مشروعا عمليّا واضحا، في وقت تشرذم فيه السياسيون العرب، وقلّ ثقلهم أمام شعوبهم وقضيتهم الأولى، وتراجعت العروبة في إحياء الوطن العربيّ، فشرّق بعضهم، وغرّب آخرون، ممّا فقدت القضيّة روحها، لولا هذا الإعلام الجديد الّذي جعلت شعوب العالم تدرك القضيّة وأبعادها الإنسانيّة.
لهذا يجب أن يكون هناك مشروع عروبي عملي، ينطلق ابتداء من إحياء القضية عمليّا، فلا يمكن أن نكون رهين استنكارات من جهة، وبيانات لحلّ الدّولتين من جهة أخرى، وإقامة دولة فلسطينيّة عاصمته القدس الشّرقيّة من جهة ثالثة، وليكن حاليا إقامة هذه الدّولة، ولكن للأسف لا يوجد دولة على الواقع، ولا توجد سلطة أمنيّة فلسطينيّة موحدة تمارس عملها كدولة أمنيا ومدنيا لها نظامها ودستورها واستقلالها، فإذا كان كذلك فالحديث عن الدّولة كمن يكتب في ماء، أو يرقم في الهواء.
وطبيعيّ هذا إذا فقد الشّعب الفلسطينيّ ثقله العربي، وهم جزء منه لا ينفصل عنه بحال، أن يبحثوا عن بديل يتشبثون به، ويتمسكون بما يمليه، وهذا حقّهم إذا تخلّى عنهم القريب، فلا يوجد إنسان عاقل يرضى بالذلة والمسكنة والاستبداد، وأن يفقد تراب وطنه، وأن يشرّد أبناؤه وأهلوه، وأن يستعبد في دياره، فلا نلق اللّوم عليهم، تارة باسم الإرهاب، وتارات باسم التّطرف، فضلا عن التّفرق والانقسام.
إنّ اللّوم الأكبر يقع على العالم العربيّ عندما تراجع بشكل كبير في سياساته ودعمه لهذه القضية، لولا شعوب بقت تنافح عن ذلك، وتلقي بعض الثّقل على سياساتها، ليكون ردّ هذه السّياسات بشكل خجول في جملتها كالعادة.
يجب أن يعود الثّقل العربيّ من جديد، إعلاميّا وثقافيّا وأمنيّا وعسكريّا في اتّجاه صالح القضيّة الفلسطينيّة، لأنّ ضياع هذه القضية، وضعف الثّقل العربي حولها؛ ليس في صالح المنطقة ككل سياسيّا وأمنيّا وثقافيّا.
وإذا كنّا نرجو أن يكون هناك من التّعقل السياسي في علاج القضيّة، وتحقيق كرامة الإنسان الفلسطينيّ، ولكن نجد هذا التّعقل يتراجع بشكل كبير ليس على حساب القضيّة الفلسطينيّة فحسب؛ بل حتّى على مستوى الوطن العربيّ ككل، فيتمدد الاستبداد والاحتراب والفقر والتّشرذم، ويصبح هذا الجزء من العالم قوميّا مفرقا لذات اليمين وذات الشّمال، فتزداد الفجوة بين الشعوب وساساتها، فضلا عن قومّيتها وعروبتها.
على أنّ إحياء الإنسان العربيّ واستقراره ووحدته، أيّا كان موقعه ومكانه، هو إحياء ونصرة للقضيّة الفلسطينيّة، كما أنّ إحياء الإنسان الفلسطينيّ ونصرته، هو إحياء للعالم العربيّ جغرافيّا وسياسيّا وأمنيّا ومجتمعيّا، لا ينفصل بحال؛ لأنّه عضو واحد، وأمّة واحدة.
كما أنّه ينبغي التّعجل لحماية المقدّسات في فلسطين، وعلى رأسها المسجد الأقصى، وكلّ ما له علاقة بالإنسان، روحيّا وعضويّا، كان التّعجل دبلوماسيّا أم عمليّا واقعيّا، ولا يكون هذا دون ثقل عربيّ واحد لا متشرذم، فلا ينبغي السّكوت عن هذه الانتهاكات المتكررة بشكل سنويّ أمام مسمع ومرأى من العالم. أنا لا أتحدّث عن الفلسطينيّ كفلسطينيّ قوميّا أو دينيّا، لكنني أتحدّث على الإنسان الفلسطينيّ، فلا ينبغي أن نتحدّث عن الأنسنة في عالم كوكبيّ واحد، ولكن عند القضيّة الفلسطينيّة ترتفع وكأنّهم نشازا عن العالم، ومع هذا لا يمكن تحقق ذلك أن تخلى عنهم قومهم وإخوانهم من بني جلدتهم، وهم الأقرب لهم دعما ونصرة، فلا نلومهم أن بحثوا عن غيرهم، ونلقي اللّوم عليهم، كما لا نلومهم إذا ارتفع خطاب التّعقل ما لم يكن له ثقله وأثره، حيث أنّ الذّئب يأكل من الغنم القاصية، وأكلت يوم أكل الثور الأبيض.