شرعنة التطوع ضد الكيان الصهيوني
لم تكن فكرة التطوع للقتال سابقة في الحرب الروسية على أوكرانيا، وإنما لها جذور تاريخية في العالم، وأوروبا على وجه الخصوص، لن أغوص في هذا التاريخ، وإنما سأركز على تأثير استدعاء التطوع من قبل طرفي الحرب من جهة أولى، ومستقبلها من جهة ثانية، وكيف لقضيتنا العربية/الإسلامية الأولى فلسطين المحتلة أن تستفيد منها من جهة ثالثة، ويطرح التطوع في الحرب على كييف مجموعة تساؤلات استشرافية ذات الوزن الاستراتيجي الثقيل، وهنا لابد من طرحها بداية، ومن ثم كيف لدول الخليج العربية أن تفتح لها الأفاق، خاصة وإنها في منطقة تتميز بالتوترات الجيوسياسية، والحروب التآمرية، وأهم هذه التساؤلات:
ـ هل يمكن لجيوش التطوع أن تشكل ظاهرة عالمية مستقبلا؟
ـ وهل يمكن أن تؤدي هذه الجيوش غير الرسمية إلى تحييد استخدام الدول لجيوشها التقليدية؟ والعجز الأمريكي والأوروبي في استخدام جيوشها لنصرة أوكرانيا نموذجا هنا، ويمكن تعزيز هذا التساؤل، بتساؤل آخر وهام جدا، وهو:
ـ هل يمكن أن يشكل التشكيل الروسي المسلح «كاغنر» ظاهرة دولية وإقليمية في ضوء انسداد الأفق لخيار استخدام القوة العسكرية التقليدية المتبادلة في الحروب مستقبلا، بمعنى أن تجربة موسكو في إقامة «كاغنر» يمكن أن تعبر حدودها السياسية.
وطرح هذه الفرضيات الهامة، تقودنا إلى جوهر الهدف الاستراتيجي من هذا المقال، ونطرحه في التساؤل التالي:
- هل يشرعن خيار التطوع من قبل طرفي الحرب في أوكرانيا، استخدامه في القضية الفلسطينية؟
تستنطق تلكم التساؤلات كل ما أود طرحه في هذا المقال، ورغم ذلك لابد من الدخول في بعض التفاصيل الهامة التي تشغل اهتماماتي من التموقع الجغرافي السياسي الإقليمي/الخليجي المتواجد فيه، وهى التي دفعت بي إلى التفكير في الدروس الحساسة جدا التي تنتجها الحرب على كييف، والتي يمكن أن تعبر حدودها السياسية والجغرافية، خاصة وأن تموقعي يشتهر بتوتراته وحروبه الجيوسياسية «أكرر» وهذا في ذاته يعطي لمجموع التساؤلات سالفة الذكر الأهمية السياسية الكبرى، لأن العالم أمام توترات غير تقليدية، تستوحي ملامحها من الحرب الروسية على أوكرانيا.
بداية لابد من الإشارة سريعا، إلى أن فكرة التطوع في الحرب على كييف قد تزامن تطبيقها من قبل طرفي الحرب بصورة متوازنة، لكن تطبيقاتها قد أخذت أشكال وألوان سياسية، واستغلال للظروف المالية للمتطوعين، فموسكو لجأت للشرق الأوسط، وبالذات العرب، ومن مناطق نزاعاتهم الحديثة، كسوريا والعراق وليبيا.. بينما فتحت كييف مسار تجنيدها في قارات أوروبا وأمريكا وأفريقيا بمباركة الغرب أنفسهم الذين سمحوا لمواطنيهم بالتطوع لصالح أوكرانيا ربما لتغطية عجزه العسكري لمناصرتها، لكنها بذلك تخلق سابقة لكل دول العالم للاستفادة منها، والأولى بها الشعب الفلسطيني الذي يغتصب المحتل أرضه وممتلكاته، ويقتل أبناءه، ويشتت شعبه، فمن حقه الإنساني والعالمي الآن أن تنتفض كل الشعوب الحرة في الدفاع عن وجوده وكرامته ووطنه.
وهى فكرة ستختمر في مصانع الفكر لدواعي نضوجها، وعندما تتوفر لها الظروف الزمنية والسياسية ستظهر للعلن بصورة غير متوقعة، وأراها من حتمية التحولات والتبدلات الراهنة المثيرة سواء داخل الدول العربية والإسلامية، خاصة شعوبها المؤطرة بأفكار دينية، كالجهاد، أو على المستويين الإقليمي والعالمي، إنها مسألة وقت فقط، الأهم أن الظرفية الراهنة، تشرعن هذه الفكرة، وتجعل من حق البلدان المحتلة أو المعتدية على حقوقها ومكتسباتها تجنيد الأفراد من أنحاء العالم مهما كانت دوافعها، مما قد يشكلون مستقبلا الجيوش الشعبية البديلة عن جيوش الدول التقليدية، لأسباب كثيرة، منها عدم قدرة الدول على استخدامها لحسابات عسكرية وسياسية وأمنية، كحالة حلف الناتو في الحرب على كييف مثلا، فدخول قوات الناتو أو أية دولة غربية يعني حربا عالمية ثالثة، لذلك وجد الغرب وموسكو معا في فكرة التطوع الحلول لتغطية العجز بالنسبة للأول، وتحقيق انتصارات نوعية ومؤثرة للثاني.
ولنا في تجربة المسيرة الخضراء المغربية في عهد الراحل الملك الحسن الثاني نموذجا هنا نقدمه، وقد يتطور مع فكرة التطوع المعاصرة، فالمسيرة الخضراء مسيرة سلمية شعبية انطلقت عام 1975 للسيطرة على الصحراء المغربية، وإنهاء الاستعمار الإسباني، وقد شارك فيها 350 ألف مغربي ومغربية، وقد وقفت الآلية العسكرية الإسبانية عاجزة عن مواجهة الجيوش الشعبية السلمية، وتشكل هذه المسيرة أهم الأحداث في التاريخ المغربي، وهى فكرة إبداعية، وقد تستدعي في حقبة عجز استخدام الجيوش التقليدية.
وقد استوقفني في متابعاتي لملف تجنيد الوسائل غير المشروعة التي لجأت إليها كييف وموسكو، فمثلا لجأت السفارات الأوكرانية في أفريقيا إلى نشر تغريدات لمواطني الدول بالتجنيد والإغراءات الدافعة له في انتهاك لقوانين الدول، واستغلالا لظروف شعوبها.. أما موسكو، فقد حصرت اهتمامها على مناطق النزاع والتوترات في الشرق الأوسط، فأغرت الشعوب بالمال.
وهنا استدلال أقدمه لكسب رؤيتي سالفة الذكر مشروعية التسليم بها، وهي ميليشيات «فاغنز» التي تطلق عليها منظمة العفو الدولية اسم «الجيش السري لفلاديمير بوتين» وتحصرها بعض المصادر «500» شخص، وتقول المصادر إنها قد تدخلت في عدد من مناطق النزاع في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية.. لتدعيم الأطراف المتحاربة الموالية لموسكو، وهى ميليشيات مسلحة مدفوعة الثمن ماليا أو سياسيا.
وفي قضية المتطوعين بشقيها الروسي والأوكراني، تتداخل السياسية في المال، والعكس صحيح كذلك، وهذا يمكن أن يتكرر مع الدول التي لا تعتد بالبعد الاجتماعي في إدارتها المالية الضاغطة.
وهناك قضية أخرى لا تقل شأنا عن سابقة البعد الاجتماعي، وهي التساهل والتسامح مع المعتقدات الأخرى على حساب ثوابت بعض مجتمعاتها الأساسية، ليس كل الدول وإنما الحديث هنا عن البعض، وكذلك انحياز سياساتها الخارجية نحو الكيان الصهيوني، وإدانة العمليات الفدائية ضد المحتلين، واعتبار عدو شعوبها حليفا لها، فكيف يصبح الكيان في آن واحد، عدوا للشعوب، وحليفا لأنظمتها؟ هنا معادلة لن تستقيم مع العقل مهما امتدت، ولن تقبل مهما كان صمت هذه الشعوب حتى الآن ، لأن في ثنائيتها التعارض والصدام والانفصال.
كل ما ذكرته، يتلاقى مع قضية التحولات والتبدلات التي تنتج شرعنة التطوع العالمي ضد الكيان الصهيوني، ولو فتح التطوع الآن، لشهدنا مسيرات مليونية من كل أنحاء العالم نحو فلسطين المحتلة وبلا مقابل مالي أو أية امتيازات أخرى، لإيمانها بسمو التطوع، وهذه الشرعنة يمنحها الآن السماح للتطوع لطرفي الحرب في أوكرانيا بمباركة دولية وإقليمية معا، وعلى رأسهم واشنطن ولندن وباريس، لكن ورغم ذلك، لن يُمكّن الشعب الفلسطيني من هذا الحق، لكنه سيظل حقا مفتوحا زمنيا رغم نضوجه إنسانيا وعالميا، وسيتوقف تطبيقه على عدة عوامل سياسية قد أصبحت الظروف والمستجدات تنتجها الآن.
أومن كغيري من المسلمين بعودة فلسطين/ القدس، وبوسيلة استردادها الشعبي المسلح. سننتظر مآلات هذا الحرب، وتداعياتها العالمية، وتأثير التبدلات والتحولات الداخلية والإقليمية للدول الفاعلة في المنطقة، وعلاقتها مع شعوبها، فالعالم في صيرورة تاريخية جديدة مقبلة، سواء على صعيد كل دولة دون استثناء أو على صعيد ميزان القوى العالمي.
عبدالله باحجاج مهتم بقضايا الشأن الخليجي