ماضٍ يتقدمُ.. حاضر يتراجع
لم تكد أزمة الوباء تعثر على شكل النهاية اللائق بعاميها الماضيين في العواصم الأوروبية، حتى بدأ فصل عالمي جديد لم يعد جديداً على نشرات الأخبار: بوتين يغزو أوكرانيا. هذا هو العنوان الاستباقي العريض لسنة ٢٠٢٢، بغض النظر عما ستفرج عنه سحب المفاوضات بين الروس والأوكرانيين في الأيام القادمة.
ووراء التهديدات وخُطب التصعيد، تلاشت أمنيات سكَّان القارة العجوز عن الحب والسلام عشية رأس السنة الميلادية، وجاءت الحرب لتُثبت لهم أن السلام لم يعد سوى «أمنيات» حقاً، عندما صحى الأوروبيون على استيقاظ شبح الحرب النائم منذ الأربعينيات، فاكتشفوا بمحض الصدفة التاريخية أن العيون الزرق يمكن أن تصبح لاجئة أيضاً، وأن «حدود الوطن قد تتحرك على العجلات» في لحظة الحسم، والتعبير هنا للروائي البولندي تادوش كونفيكي. أما مشهد «اللاجئين الجدد»، حتى لو لم نضطر لمقارنته مع كل مرة بحالات اللجوء المستمرة في البلاد العربية والإسلامية، فهو مشهد سيعلق الحاضر ويؤجل السؤال عن المستقبل، ريثما تعيد الجغرافيا تموضعها في أوروبا الشرقية وتعلن الحرب الجارية عن إجابتها الشافية حول مصير النظام العالمي.
الغريب أن احتمالات هذه الحرب ومساراتها ظلت مفتوحة على الماضي لا على المستقبل، حتى قبل أن تندلع على الأرض. فذكريات الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية، كلها أحداث لا تغيب عن معظم الكتابات التي تتناول الحرب الروسية على أوكرانيا، بل إن تلك الأحداث تمثل مفاتيح أساسية لاستيعاب السياق التاريخي للحرب الدائرة الآن، الحرب التي جعلتنا نعود من جديد إلى سؤال الجغرافيا بعد عقود حسبنا خلالها أن العالم لن يتحدث في القرن الواحد والعشرين لغة «مناطق نفوذ» التي تعيد تقسيم المياه واليابسة بين إمبراطوريات ترتكز سياستها الخارجية على مبدأ التوسع، بلا احترام لحدود الدول وسيادتها. الغريب أيضاً أن يكون الماضي هو محرض هذا الجشع الجغرافي. فبوتين لم يدخل الأراضي الأوكرانية بحثاً عن استحقاق حاضر أو مستقبلي، بل عن استحقاق تاريخي. وليس بعيداً أن يقوم بتكرار السيناريو الكوري في حال تقهقرت قواته أمام صلابة المقاومة الأوكرانية، كما تنبأ رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، قبل أيام، بنوايا روسية لتقسيم أوكرانيا كما قُسمت كوريا عقب الحرب العالمية الثانية إلى كوريتين، شمالية وجنوبية، بحيث يكون أحد الجزأين خاضعاً للنفوذ الروسي.
بالنسبة لأوكرانيا فهناك خيبة أمل من الجوار الأوروبي، وشعور بالخذلان يتفاقم مع كل يوم من أيام الحرب، حتى في ظل التأييد والتعاطف الجياش الذي أبداه الأوروبيون تجاه القضية الأوكرانية، وتجاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شخصياً . تكللت هذه الخيبة في العاشر من مارس الماضي عندما أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي المجتمعين في فرساي أن لا وجود لمسار سريع يضمن لأوكرانيا مقعداً بينهم في المستقبل القريب، الموقف الذي قد يراه البعض مكسباً للكرملين، وإصابة بنيران صديقة بالنسبة للحكومة الأوكرانية. وبالرغم من أن الطرفين المباشرين المنخرطين في الصراع، روسيا وأوكرانيا، ليسا عضوين في الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه الحرب مثلت التهديد الأعنف لحُلم «المستقبل المشترك» الذي أشرف الاتحاد على بنائه منذ تسعينيات القرن الماضي، وأوشك أن يصبح حقيقة خلال سنوات قياسية لفتت إعجاب أكبر الاقتصادات، وجعلت من العمل الأوروبي المشترك نموذجاً يُحتذى بالنسبة للعديد من التكتلات الاقتصادية والسياسية حول العالم، كرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومجلس التعاون الخليجي كمثال أصغر وأقرب، حتى مع أقدمية هذه التكتلات من حيث التأسيس، إلا أنها فشلت في مواكبة صناعة الثقة بين الدول الـ٢٧ التي تشكل عقد المنظومة الأوروبية.
في حديث تلفزيوني معه مطلع الحرب، شدني قول السياسي اللبناني والمبعوث الأممي السابق غسان سلامة إن أوروبا كانت ذاهبة لنسيان الحرب قبل أوكرانيا. هذه حقيقة نجدها حاضرة لدى العديد من الدول الأوروبية المهمة التي تمكنت من تخفيض إنفاقاتها العسكرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كبريطانيا وألمانيا. أوروبا كما يقول غسان سلامة كانت ترى بأن الجيوش يمكن أن تُحول إلى قوات أمن وشرطة. لكن الحرب التي بددت هذه الطمأنينة ستعيد من جديد الاعتبار إلى الهيبة العسكرية والتسلح لدى هذه الدول.
لعلها فرصة مثالية للاستشهاد بمقولة مارك توين «قد لا يعيد التاريخ نفسه لكنه يكرر نفس القافية». لقد حان الوقت لتدبر الدرس القديم الذي يقول بأن السلام لا يمكن أن يبنى على أسس الغلبة والهزيمة، إذ لا يمكن له أن يكون سوى صرح خيال مؤقت ما دام أحد أطرافه قد دخل من بوابة السلام وهو يشعر بأنه مهزوم. لم تعد روسيا إلى الجسد الأوروبي عن قناعة كما يبدو، بل عادت تحت الشروط الاقتصادية والسياسية التي أملتها هزيمة الاتحاد السوفييتي لصالح الولايات المتحدة في الحرب الباردة. وليس من الصعب علينا أن نفهم مشاعر الغُبن التي ظل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعيشها قبل الحرب، ما دام بوسع الذاكرة السياسية أن تستعيد للحظات ما خلفته من مهانة تاريخية في نفوس الألمان معاهدة فرساي، بين الحلفاء وألمانيا، التي كان من تبعاتها صعود النازيين إلى السلطة بشخصية مريضة بجنون العظمة تدعى «أدولف هتلر»، الديكتاتور الذي سيقود العالم إلى أكبر حرب دموية في تاريخ البشرية. ونتذكر لاحقاً ما كان من حجم الاستياء المكبوت لدى المثقفين الألمان عقب تقسيم وطنهم التاريخي إلى منطقتي نفوذ شرقية وغربية بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. ولا أثر في التاريخ الحديث تقريباً لسلام عادل ومتكافئ.
سالم الرحبي شاعر عماني