المشتريات الحكومية والنمو الاقتصادي
تعرّف المشتريات الحكومية أو المشتريات العامة على أنها مشتريات المؤسسات الحكومية من السلع والخدمات والأشغال، ويشمل ذلك المشتريات المدنية والعسكرية. وحسبما هو متوفر لدينا من إحصاءات وبيانات فإن المشتريات الحكومية شكلت في ٢٠٢٠ ما نسبته ١٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم. أما في دول منظمة التعاون والتنمية OECD فتصل إلى ١٢،٨٪، ووصلت في دول الاتحاد الأوروبي إلى ١٤٪ و إلى ٩،٣٪ الولايات المتحدة الأمريكية.
للمشتريات الحكومية أهمية بالغة في تحفيز النمو الاقتصادي على الصعيد المحلي إذ إنها إحدى أهم أدوات السياسة المالية للدولة، ولها من جهة أخرى أهمية مماثلة في التجارة الدولية بشقيها السلعي والخدمي. ونظرا لتلك الأهمية فإن موضوع المشتريات الحكومية أصبح منذ ما يزيد على أربعين عاما عنصراً هاماً في مفاوضات واتفاقيات التجارة الدولية، سواء كان ذلك على الصعيد الثنائي أو الإقليمي أو الدولي. وقد نشأت عن ذلك الاهتمام الاتفاقية المعروفة باسم اتفاقية المشتريات الحكومية Government Procurement Agreement (GPA) التي هي الآن إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، مثلها في ذلك مثل اتفاقية التجارة في السلع واتفاقية التجارة في الخدمات. تم التوقيع على الاتفاقية الدولية للمشتريات الحكومية لأول مرة في عام ١٩٧٩ من قبل مجموعة قليلة من الدول، ثم أدخل عليها عدد من التعديلات في إطار مفاوضات الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة GATT ثم وريثتها، منظمة التجارة العالميةWTO . وكان آخر تعديل تم إدخاله عليها في مارس من عام ٢٠١٢، وقد دخلت الاتفاقية حيز النفاذ في عام ٢٠١٤ بعد أن صادق عليها العدد اللازم من الدول، وتم تطبيقها في صيغتها الجديدة في شهر يناير عام ٢٠٢١. إلا أن الملاحظ أن عدد الدول التي أصبحت أعضاء في اتفاقية المشتريات الحكومية ما يزال أقل بكثير من الدول الأعضاء في اتفاقية السلع واتفاقية الخدمات في منظمة التجارة العالمية، حيث فضلت كثير من الدول أخذ صفة مراقب، بينما لا تزال دول أخرى، ومنها سلطنة عمان، تتفاوض على الاتفاقية. ومعلوم أنه حين كانت عمان وبقية دول مجلس التعاون تتفاوض مع دول ومجموعات اقتصادية أخرى على اتفاقيات تجارة حرة، كان موضوع المشتريات الحكومية من الموضوعات التي تطرح بقوة من قبل بعض تلك الدول والمجموعات، لكن دول المجلس كانت تفضل عدم الدخول في اتفاقيات ملزمة فيها، وذلك لما لها من أثر على قدرة الصناعات والخدمات المحلية على المنافسة. غير أنه مما يجب التنبيه أو التنبه إليه هو أن اتفاقية المشتريات الحكومية المشار إليها، وإن كانت قد تعرّض السلع والخدمات الوطنية لمنافسة غير عادلة من نظيراتها الأجنبية، إلا أن وجودها أصبح من العوامل المهمة في تحسين مستوى الشفافية في اتفاقيات الشراء والتوريد، وتساعد على الحد من الفساد المالي والإداري في الدول. وفي هذا الجانب أكدت الاتفاقية في ديباجتها وفي عددٍ من بنودها وموادها على أهمية الشفافية وتساوي الفرص للمتنافسين، وركزت على أهمية استخدام أنظمة "التناقص الإلكتروني" في طرح المناقصات والتنافس عليها.
في سلطنة عمان بلغ الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام ٢٠٢١ حوالي ٢٤،٢ مليار ريال عماني، أما إجمالي الإنفاق في ميزانية العام الحالي فقد تم تقديره بحوالي ١٢،٣ مليار ريال، وهذا يشمل الإنفاق الجاري والرأسمالي والتنموي في القطاعين المدني والعسكري. وحيث أنه لا تتوفر تفاصيل عن الإنفاق العسكري في جوانبه الثلاثة، فإنه ولغرض التحليل فإننا سنستبعد الإنفاق العسكري وسنتناول فقط الإنفاق في الجانب المدني، وتحديدا الإنفاق الرأسمالي والتنموي وليس الإنفاق الجاري. معلوم أن الإنفاق الرأسمالي هو المبلغ الذي يصرف على زيادة الأصول الثابتة، مثل بناء المدارس والمستشفيات والموانئ والطرق، أو لشراء سلع معمرة، مثل السيارات والمعدات. أما الإنفاق الإنمائي أو التنموي فهو الإنفاق الذي يؤدي إلى زيادة فرص العمل أو إلى زيادة الإنتاج، أو يؤدي إلى استقرار الأسعار في السوق. والإنفاق الجاري هو الإنفاق الذي يخصص للآجال القصيرة ويصرف خلال العام، مثل الرواتب والأجور، وما شابه ذلك من مصاريف.
قدرت الميزانية العامة لعام ٢٠٢٢ مجموع الإنفاق في القطاع العسكري بحوالي ٣ مليار ريال، أي حوالي ٢٩٪ من مجموع الإنفاق. أما مجموع الإنفاق في القطاع المدني فقد تم تقديره بحوالي ٤،٣ مليار ريال، بلغ المخصص منه للراتب حوالي ٣،٢ مليار ريال، وبلغ المخصص للإنفاق الرأسمالي حوالي ١،٢ مليار ريال، إما الإنفاق التنموي فقد خصص له حوالي ٩٠٠ مليون ر يال. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم تخصيص مبالغ أخرى للإنفاق التنموي في ميزانيات جهاز الاستثمار وميزانية شركة طاقة عمان، وتم تقديره بحوالي ٤.١ مليار دولار. لكن مدار التحليل في هذا المقال هو عن مخصص المشتريات في الميزانية العامة وليس خارجها، وتحديدا عن الإنفاق التنموي المقدر بمبلغ ٩٠٠ مليون ريال والإنفاق الرأسمالي والمقدر له ١،٢ مليار ريال، أي أن مجموع ما يمكن اعتباره مخصصاً للمشتريات الحكومية هو حوالي ٢،١ مليار ريال. وبالرجوع إلى تعريف المشتريات الحكومية الوارد في مقدمة هذا المقال وأهميتها في تحفيز النمو الاقتصادي المحلي وفي التجارة الدولية، وبالنظر الى الأرقام الواردة أعلاه عن الناتج المحلي الإجمالي وميزانية عام ٢٠٢٢، يتضح أن نسبة المشتريات الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي في عمان تبلغ حوالي ٨،٧٪ على أحسن تقدير.
تعتمد كثير من الدول، ومنها سلطنة عمان، مؤشرات منظمة التعاون والتنمية OECD كمعايير تسعى إلى تحقيقها، ومنها المعايير والأهداف التي تم وضعها لتحقيق رؤية عمان ٢٠٤٠. وحيث أنه كما أشرنا فإن نسبة مساهمة المشتريات الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول منظمة التعاون والتنمية تبلغ ١٢،٨٪ فإن تلك النسبة في عمان ما زالت دون ذلك بما يزيد على ٤٪. لقد أكدنا في مقالات سابقة على أهمية الإنفاق الحكومي، ومنه المشتريات الحكومية، في تعزيز النمو الاقتصادي، خاصة في الفترات التي يتباطأ فيها النمو بفعل مؤثرات داخلية أو خارجية. وتتيح الطفرة النفطية الحالية، التي أدت إلى زيادة كبيرة في إيرادات الحكومة، فرصة لزيادة الإنفاق والمشتريات الحكومية لتصل تلك المشتريات على الأقل إلى نفس النسبة من الناتج المحلي الإجمالي في دول منظمة التعاون والتنمية. بل أجزم بالقول أن عمان بصفتها دولة نامية، ومن أجل إخراج اقتصادها من وضعه الحالي والذي مر عليه سنوات، فإنه يجب زيادة الإنفاق العام والمشتريات الحكومية لتصل إلى ما لا يقل عن ١٤٪ التي هي عليه في دول الاتحاد الأوروبي. إن الدفع بالنمو الاقتصادي وبالتنمية الاقتصادية بأبعادها المختلفة هي مسؤولية الحكومات، بالدرجة الأولى، والقول بأن على القطاع الخاص أن يتحمل الجزء الأكبر من ذلك هو قول عفا عليه الزمن، خاصة مع ما تركته جائحة كوفيد-١٩ من آثار جعلت الحكومات في الدول الصناعية الكبرى تتدخل بضخ ما يصل إلى تريليونات الدولارات لإنعاش اقتصاداتها ولدعم الأعمال الصغيرة والمتوسطة وحماية الفئات الأقل دخلا في المجتمع. ومما لا ريب فيه أن المشاريع التي أمر جلالة السلطان المعظم في الأسبوع الماضي بإضافتها إلى الخطة الخمسية الحالية والمقدر تكلفتها بحوالي ٦٥٠ مليون ريال سيكون له أثر مهم على النمو وذلك حسب جدول تخصيص ذلك المبلغ الإضافي على سنوات الخطة.
• عبدالملك الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية