رحلة القراءة.. أيهما جاء أولا؟
بالعودة إلى الأسئلة الجدلية، والتي تبدو بادئ الأمر لا تتعدى كونها مثارا للجدل والحيرة، بلا عمق دفين في باطنها، وكأن الإجابة الأكيدة لها ضرب من التكهن لا غير، ومن التتبع لبعض من تلكم الأسئلة المتداولة، كقولنا أيهما جاء أولا البيضة أم الدجاجة؟، وأيهما جاء أولا اللون البرتقالي أم البرتقالة؟، وأيهما جاء أولا البذرة أم الثمرة؟.
ليرحل فكرنا إلى ما هو أبعد مما نتصور، يأخذنا إلى البدايات البعيدة جدا، وكأنه يأخذنا إلى البدايات الأولية لتشكل الحياة البدائية، والتماهي لنتجاوز بداياتنا وعلى نحو يتجاوزها حتى، إلى بداية الكون، وبداية الحياة، لتتشكل الحياة فتتبرعم أسئلة جديدة على شاكلة، أيهما جاء أولا؟ وإن الأمر في مضمونه العميق يقودنا لمعرفة أن هذا النوع حقيقة من الاستفهام تساؤلا وليس سؤالا، بحيث يفوق التساؤل السؤال الذي يطالب بلغة محددة إجابات تشبهه من الوضوح والإمكانية، أما التساؤل فيمتد إلى ما لا نهائية الإجابات والأفكار، وتعدد المنطق والأصوات، ليأخذنا إلى فرضيات وفلسفات من زوايا عديدة، فلا شيء صائب تماما وخاطئ كليا.
لتكون هذه الصيغة تساؤلا مفتوحا يمتد إلى أمد بعيد ما بين نقطتي البداية والنهاية، كتلك التساؤلات الوجودية غير المتشابهة التي تهرب من الإجابات الجمعية إلى قناعات داخلية باطنية خاصة بك.
لنسافر عبر مطية التساؤل إلى البدايات البعيدة جدا، حيث الحضارات القديمة التي بدأت بتساؤلات عظيمة، فمنذ بدء الكون وظهور الحياة، ثم كان التساؤل أيهما جاء أولا المخلوقات أم الحياة، هل المخلوقات هي من جعل للمكان حياة أم الحياة بما يشملها من تخلق بيولوجي هو من تشكلت من بعده مخلوقات بأمر الله عز وجل.
لنسحب البساط عن البدايات الأولية، ويقودنا التساؤل إلى عصور ما قبل التاريخ، والعصور الحجرية، حيث كانت الحجارة الصماء هي المكون الأم للبيوت والأدوات المعيشية لسكان ذلك العصر، وليستفيق التساؤل حول بدايات لجوء الإنسان الحجري إلى ذلك الحجر، هل هو الطرق أم التشكل الطبيعي للحجر، هل بدأ باستخدام الحجر لملائمته طبيعيا بأشكال تشابه احتياجاته، أم أنه بفعل الحاجة الملحة الفطرية بدأ بطرق تلك الحجارة وتكسيرها، وتفتيتها، ونحتها لتتوائم مع احتياجاتها اليومية من أمن وسكنى.
لتظهر الكتابة في الحضارة السومرية، فنبدأ نعرف منها وبشكل أكبر وبعيدا عن التكهنية، وغير مقتصر على علم الآثار والمستحثات الذي قدم لمحات عصور ما قبل التاريخ، لنقول أيهما سيّر معيشة الناس وفق خط زمني تتابعي، هل هي العاطفة أم التفكير، هل العاطفة هي ما انبعثت منها الأفكار، أم عمليات التفكير والتركيز الذهني هي من صنعت النقلات الفارقة لتلك الأزمنة، لتتوالى بعدها عصور ظهور الديانات، ثم التاريخ الحديث، والثورة الصناعية، وعصر العولمة والتكنولوجيا المتسارعة، لننتبه إلى التساؤل، أيهما جاء أولا التوسع العمراني أم الزيادة البشرية؟، وأيهما جاء أولا التعديل الجيني أم التأثير البيئي؟، وهل هي الكتابة من جاءت أولا أم القراءة؟.
لنجد أن كل تلك التساؤلات سارت وفق خطة تفكير متناغمة مع القوانين الطبيعية، فنحن بحاجة إلى التساؤل لنفكر ذلك التفكير المحرك لعجلة سير التاريخ في نسق نظامي.
لنقف بعد ذلك إلى تساؤل مهم، هل ما صنع حياتنا كان التساؤل من الأساس؟، وأن البحث عن الأسبقية يعرّفنا أن كلاهما يسيرنا بالتوازي، وبجزئيات وتفاصيل دقيقة جدا يصعب تفصيلها وتحديدها، وإذا انتقلنا إلى أمثلة من العلاقات البشرية نعرف جيدا أنه لمن الصعوبة التحديد والجزم بأيهما جاء أولا، فالنهايات تسير معها البدايات بالتوازي، لكن على نحو خفي إلى أن يتحين لها دور الظهور، وهكذا البدايات تحمل خط سير موازي لها، وأن لذلك بعدا جينيا في ذلك الجين اللولبي الملتف من الحمض النووي المترابط حلزونيا بسلاسل النيوكليوتيدات.
وأن التفكير الخارق يسير مع رياح التساؤل في رحلة بحث عن الإجابات، لينساب أو يقتاد خطى سير الزمان، ليكون التساؤل صاحب السبق الأول والبذرة الأولى لتلك التغيرات الدراماتيكية التحولية بين الأزمان، وتكون المراحل الحضارية الانتقالية بين فكي سندان التساؤل، لنعي في نهاية الأمر البعد الآخر للتساؤلات، كونها محفزا لتوليد الإجابات بحيث إن الاهتمام يتبعه النمو.
لنقول أخيرا: أيهما جاء أولا التساؤل أم تواجد الإجابة في مكان ما؟، فتتوالى الأسئلة ليكون للتساؤلات الأم تساؤلات أصغر تستمر باستمرارية الحياة، لنكون في وضع لا متناهي من إطلاق تلك الاستفهامات، أيهما جاء أولا الحاجة أم الاختراع، لنصل بهذا التساؤل إلى إدراك أهميتها في وضع البدايات الجديدة، والخطوات التالية والنقلات الفارقة في التتابع الحضاري.