أدب الطفل.. "على نحو فلسفي"
قصص الأطفال خير من يقدم الفلسفة للطفل، بشرط أن لا تكون تلك القصة مرصعة بالأسئلة فحسب، بل يكون التساؤل قوامها الحقيقي الحي، ويكون جزءا متأصلا من مادتها السردية، أسئلة تتقد في ذهن الطفل، فيستوحي منها شغفا بتتبع الحقيقة.
وكل الحذر من أن يقدم الكاتب القصة بفكرة جاهزة، بل عليه أن يدع القارئ الصغير يكون له دور في تحليل وصياغة النهاية، لتخلد في ذهنه، فيحلم ويتخيل بدهشة، ولا يقتصر دوره كونه منقادا مسيرا في درب نسج من وهم الحكاية، فسؤال واحد كفيل بأن تلتمع في ذهنه عشرات الأسئلة في سلسلة متوالية، فيتتبع تلك الأسئلة التي تحمل إجاباتها أفكارا ثمينة بلا شك، فالقصة تصنع الطفل من الداخل في تراكم خفي، "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون"، سورة الأعراف 176.
ويمكن تقديم تلك الفلسفة عبر تحويل مجرى الحكاية إلى نقلات من الأسئلة، وعبر آليات بلاغية لا تخلو من الصدق وإن كانت خيالية، أسئلة تربط الأحداث في القصة تستوحي منها الخيال الذي يسير بنا إلى نهاية الحبكة القصصية، تساؤلات تسير بالتوازي مع البناء الفني للقصة، وأسئلة أخرى تعطي للطفل تلميحات خاطفة عن الزمان والمكان للقصة، ليحلق بخيال مع شخصياتها ليكمل معهم القصة، لتزيد من توسيع مداركهم وأخيلتهم أكثر مما تفعله أحداث القصة ذاتها، فهي تقدم دهشة مضاعفة للدهشة داخل النص.
وما بين تساؤلات البداية وتساؤلات النهايات هناك سيل جارف من تساؤلات دهشة الحبكة، ففي ظل غياب الإجابة عن تلك الأسئلة الممنهجة والمقننة، يشعر الطفل بدغدغة لذيذة في عقله تحفزه وتساعده على ارتقاء السلم المعرفي والبنائي للعمل الأدبي، وبنهاية مفتوحة تفضي إلى أفق رحب واسع، يتيح لجناحي الخيال التحليق بانسيابية وحرية، في تأمل عقلي رحب بعيدا عن تضييق النهاية في إطار محدد.
فهناك ارتباط خفي نمطي سببي ما بين السؤال والإجابة، فعادة ما يحمل السؤال في بطنه الإجابة، إلا أن البعض يتوجس ريبة من مصطلح الفلسفة وخاصة عند تقديمها للطفل، يظنون بأنه يقود الى الاضطراب والتمرد، لكنه في حقيقته وعمقه يساعد على استعادة الاتزان مرة بعد مرة عبر طرح عدد من الأسئلة، فعبر أساليب التساؤل والحوار مع الذات ونقد المطروح تساعدنا تلك الأسئلة العميقة على نحو لا شعوري على تصحيح الذات، وتعزيز قدرة الطفل على الاستبصار وتمحيص المعرفة بالاستدلال والحوار والربط، إلى أن يصل إلى الفرضية وإصدار الحكم.
الفلسفة تعلم الطفل وتجعله يتسلح بمهارات الاستدلال المنطقي، والتفكير العلمي كالدقة في الملاحظة والتحليل من بعد شك وتساؤل، وصولا الى اصدار الأحكام، ليعرف أن الحقيقة شيء نسبي يحتمل الصواب والخطأ، وكما يقول أرسطو: " ما من شيء مؤكد"، مما يزيد من مقدرتهم على تقبل الآراء، الذي يقوده مرة بعد مرة على تقبل الآخر، وهو من الغايات الإنسانية العليا، مما يجعل العمل الأدبي الموجه للطفل معززا للديمقراطية.
الفلسفة في مجملها حب الحكمة عبر التساؤل والبحث عن الإجابة، وبفكر ديكارتي "أنا أفكر إذا أنا موجود"، وترويض الفكرة لمحاولة بلورتها ولملمة جزئياتها، ولا تنحصر الفلسفة على تلك الأسئلة الوجودية ومباحث القيم بل يتعداها إلى الاستدلال لكل المعلومات المطروحة والأفكار المتاحة.
فالمتسائل دائما يمتلك رؤية جيدة عبر إعادة النظر في المعارف المتداولة، ومعايرة الأفكار عبر التساؤل الفلسفي، حيث إن لغة المنطق تقول دائما بأن نتجنب تلك الحقائق المطلقة.
ولكي لا تخبو تلك الأفكار والتساؤلات في أذهان الأطفال الصغار، ولأن الفلسفة منشطة للعقل ومحسنة لمهارات التفكير العليا، والتي لا يمكن تحفيزها الا عبر تلك الأسئلة الناقدة، والتوصل للأفكار بمنطقية، فتقود حركة التفكير بحيث لا تكون عشوائية، فتعليم الفلسفة يبدأ بالتربية الحوارية، فبالحوار وحده تنشط الأسئلة، وعبر تبادل إبداء الرأي بحصافة، يتم تفنيد الأفكار والتوصل إلى أكثر قدر من الإجابات، والفلسفة مدخل وطريق يؤدي إلى الإبداع والأصالة.
لذا لا أناشد بفصلها في نمط أدبي منفصل، كأن تكون هناك قصة فلسفية كنوع مستقل، بل هي تسير جنبا الى جنب مع كل ذلك الفن الأدبي الموجه للطفل، فالطفل قابل وبشدة لتعلم الفلسفة والتفلسف، بسبب تساؤلاته المستمرة بطبيعته الفطرية ودهشته إزاء كل التفاصيل، فيكون بعدها قادرا على التدرج حسب مستواه العمري على التعليل الفلسفي من بعد تشارك الآراء.
فالفلسفة يكمن جوهرها في كونها تأتي داعمة للمعرفة والفن، وليست مناقضة لهما على الدوام، حيث إن التساؤل هو رغبة في الحصول على معرفة واضحة، فتلك الأسئلة بقوتها الفاعلة تسترعي انتباههم دوما، فيجب أن يكون مستندا على أساس أن لكل أمر نظرية وسلسلة من الأحداث، وبإمكان الطفل التعود على قراءتها بطريقة نمطية، وبذلك يتعود شيئا فشيئا أن يكون فاعلا في حراك النسق المعرفي، وليس مستقبلا له بكل رتابة وجمود.
وكما يقول المؤسس الأول لفلسفة الأطفال وأستاذ المنطق والفيلسوف الأمريكي "ماثيو ليبمان": "إنك لن تتعلم شيئا من المفاهيم، اذا لم تكن قد انشأتها قبلا، أو شاركت في إنشائها".
فعبر توجيه أسئلة الطفل الحرة، تصل به لأن يكوّن فلسفة خاصة، ويكون قادرا على استنباط المعلومات شيئا فشيئا، كما أن تعزيز الحس الناقد لا يكون إلا عبر التساؤلات الفلسفية وإبداء الرأي والإنصات إلى الرأي الآخر، بحيث يكون قادرا على قراءة وجهات النظر التعددية بفهم نقدي، وفهم البنيان المعرفي والإضافة عليه، والمعرفة التي يتوصل لها بنفسه، سيعرف منها طريق العودة جيدا.
* فوزية الفهدية روائية وقاصة عمانية وكاتبة رواية "الجانب الآخر من الحكاية"