الرهانات على اللامركزية بعد لقاء حصن الشموخ
هي رهانات متجددة ومتعاظمة، وتأخذ الآن مسارات سياسية قوية بعد لقاء حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المفدى - حفظه الله ورعاه - مع شيوخ ولايات الداخلية والوسطى بحصن الشموخ أمس الأول، وأنظر إليها من ناحيتين، هما:
الأولى: استحواذ الرهانات على النصيب الأكبر من حديث جلالته مع الشيوخ.
الثانية: التأكيد على المتابعة السلطانية للنتائج، وتطلع جلالته لها خلال المدى المتوسط.
ففي الأولى، كان حديث جلالته عن الرهانات على اللامركزية مفعما بالعزم والإرادة السياسيتين للتحول السريع من المركزية إلى اللامركزية في صناعة القرارات المتعلقة بتنمية المحافظات، فقد تكررت في الحديث مفردات قاطعة لهذا الاستنتاج، مثل «آن الأوان للامركزية» وكذلك تكررت مفردة «مهم جدًا» للدور الجديد للمحافظين وللمجالس البلدية، كما تكررت الخطابات الموجهة للمحافظين مباشرة مثل «هذا دوركم الآن» وكذلك خطاب «عليكم التفاعل» وهذا الدور التفاعلي، ينبغي أن ينقل دور المحافظين الآن بنسبة مئوية كاملة، فلا مجال للمقارنة بين الدور الحالي للمحافظين حتى بعد منحهم صلاحيات واسعة، وبين الدور الجديد الذي نقرأه من حديث جلالته - حفظه الله - في اللقاء، ويظل التساؤل الآن عن التطبيق.
وفي الثانية تنشأ رقابية سياسية عليا على عمل المحافظين وتحدد سياسيًا سقفًا للنتائج بمحدد زمني، وهذا النوع من الرقابة تعزز الفقرة الأولى وتتناغم معها إيجابيا، لو تعمقنا في ماهية الربط التحليلي لها، فهي تخرجها من التصنيفات الديموغوجية للخطابات السياسية لتجعل منها محكومة بالواقعية، وهذا يعني أن الرهانات على اللامركزية من لدن السلطة السياسية العليا في البلاد، حقيقة تلزم التطبيق الآني، حيث جعلت السلطة نفسها رقيبة على التطبيق وعلى النتائج، نلمس ذلك من حديث جلالته في اللقاء، وتحديدًا الفقرة التالية «سنتابع كل صغيرة وكبيرة..» ونلمس ذلك كذلك في تحديد سقف زمني لنتائج ثمار تطبيق اللامركزية، وهي فترة خمس سنوات.
وليس هناك أدق وأبلغ ما يعبر عن كل ذلك، اعتبار عاهل البلاد الانتقال للامركزية في صناعة القرار في المحافظات، بأن ذلك يشكل «ضرورة» وهذا توصيف دقيق لما تستدعيه طبيعة مرحلتنا الوطنية في ظل تحولات البلاد الاقتصادية، وتبنيها نظام الضرائب ورفع الدعم الاجتماعي، وهذه الضرورة يقابلها تحديد الدور الجديد للمحافظين وقد وردت في حديث جلالته بصيغة موجهة للمحافظين مباشرة، وهي حرفيا «دوركم تنمية محافظاتكم من كل النواحي».
والفقرتان الأولى والثانية، قد جاءتا بمثابة قيود سياسية وزمنية على الأدوار الجديدة للمحافظين والمجالس البلدية، وفي الوقت نفسه تشكلان تحديات تنافسية بين المحافظين وأعضاء المجالس البلدية في المحافظات في تحقيق التنمية الإقليمية، وحل الإشكاليات والقضايا التي تقع في النطاق الترابي لكل محافظة، وهي في الوقت ذاته -أي الفقرتان- تشكلان كأدوات لقياس مدى نجاح أداء المحافظين وأعضاء المجالس البلدية لأن الرقابة هنا سياسية، والأداء سيكون محكوما بالنتائج خلال مدى زمني متوسط. وكان المحافظون والمجالس البلدية قد منحا في العام الماضي صلاحيات جديدة، واستحدث نظام جديد للمحافظين، فما هي مؤشرات تطبيقاتها الآن؟ هذا الهاجس يلقي بظلاله في ظل توجهات لقاء جلالته مع شيوخ ولايات محافظتي الداخلية والوسطى، وهو هاجس لا يمكن إسقاطه أو تجاوزه من هذا التحليل، فمن الملاحظ أن هناك بطئا وعدم قابلية في ممارسة كامل صلاحيات التطبيق، لماذا؟ ربما الإجابة عن هذا التساؤل يحتاج لبحث استقصائي، لكن التساؤل هنا، يكمن حول، هل سيظل الرهان عليها في التطبيق مجددًا أم سنشهد تغييرات مقبلة أو ستكون هناك خارطة للتطبيق موجهة للمحافظين؟
وكنت في مقال سابق منشور في «جريدة عمان» بعنوان «المسؤوليات الوطنية الجديدة للمحافظين» «نشر بتاريخ 15 أكتوبر 2021» قد اقترحت تشكيل لجنة خاصة مستقلة لمتابعة التطبيق، ومساعدة وحث المحافظات على تقدير الآجال الزمنية للإصلاحات بعدما لمست نقصا في الفاعلية التطبيقية على الصعيدين المركزي واللامركزي، وهذه الفاعلية هي التي ستحدث الفارق الآن بعد لقاء حصن الشموخ العامر.
وذكرت بالغايات السياسات الكبرى «الآنية» المرجوة من تبني نظام المحافظات بصلاحياته الواعدة التي تنطلق من خلاله البلاد إلى تطوير إدارتها المحلية نحو اللامركزية - وحددتها في الآتي:
- تحقيق التنمية الاقتصادية المحلية.
- صناعة الرضا الاجتماعي المحلي.
- احتواء الشباب خاصة، والسكنات الاجتماعية في كل محافظة عامة.
- إشراك الفاعلين المحليين في التنمية الإقليمية/ المحلية مما يجعلهم شركاء فعليين مع السلطة اللامركزية في صناعة القرار، وتحمل تبعاته التنموية والاجتماعية.
والآن، مسؤولية المحافظين والمجالس البلدية في تنمية المحافظات من كل النواحي، تختصر كل الغايات في حاضرها ومستقبلها، وكلها واجبة الآنية في ضوء محددات اللقاء، وتحديات المرحلة الوطنية، فلو أخذنا ما آثاره عاهل البلاد من التحديات التي تواجه قضية التربية لجيلنا الجديد، فجلالته يحمل المسؤولية المجتمع العماني بمؤسساته وفاعليه في ظل اللامركزية، وذلك حتى لا تكون التقنية بديلا عن المجتمع في مجال التربية، محملا جلالته المجتمع مسؤولية الحفاظ على العادات والتقاليد العمانية، وهذا يفهم من مقولة عاهل البلاد - حفظه الله - الموجهة للمحافظين «تربية الأبناء لا تتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي.. تربيتهم هي جزء من أصل المجتمع العماني» من هنا ينبغي على كل مجتمع محلي في إطار نظام اللامركزية التصدي لتحديات قضايا التربية.
وإثارة قضايا التربية في لقاء حصن الشموخ العامر، يرتقي الآن إلى مستوى الأولوية الوطنية، وينبغي أن تدار من منظور اللامركزية، فكل مجتمع محلي ينبغي أن يتصدى للتحولات الفكرية التي تثار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يتأثر بها الشباب، لذلك ينبغي أن تستفيد كل محافظة من قدرات أبنائها المتخصصين والمؤهلين في كل المجالات ضمن هياكل جديدة يتم إدخالها في إداراتها المحلية.
وأنظر لتخصيص كل محافظة ميزانية خمسية على أنها خطوة استشرافية حالمة، فقد رفعت الميزانية من عشرة ملايين ريال عماني كل خمس سنوات، إلى عشرين مليون ريال عماني، وحتى هذا الرقم الأخير لن يكون نهائيا، فهو مرتبط بالوضع المالي المقبل للبلاد، وتخصص لتطوير الخدمات واستحداث المرافق لكل محافظة، أي أنها لن تشمل المشروعات الاستراتيجية، وقد روعيت فيها المساواة بصرف النظر عن حجم كل محافظة، وهذا ما يبرره، كون هذه المساواة المالية ستخدم المجتمعات المحلية في أدق تفاصيل حياتها اليومية من جهة، وكون المحافظات غير المركزية تحتاج لمرافق وخدمات أساسية. وخطوة الموازنة، يمكن أن تطور شكل اللامركزية في البلاد خاصة إذا ما ربطناها بنظام المحافظات والشؤون البلدية الجديد، فهذا النظام يمنح كل محافظة الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، والأهلية في تملك الأموال الثابتة والمنقولة وإدارتها، والتصرف فيها، وكذلك إنشاء وإدارة المرافق البلدية وتنمية واستثمار موارد المحافظة، والترويج لها، من أجل تحقيق التنمية المحلية المستدامة، وإيجاد فرص عمل للمواطنين.
فمن المعلوم، أن هناك عدة أنواع للامركزية، فهناك للامركزية الإدارية، واللامركزية الاقتصادية، واللامركزية السياسية، واللامركزية المالية، واللامركزية الإقليمية، واللامركزية المرفقية، فهذه الأنواع من اللامركزية تتوقف على درجة الصلاحيات التي توكلها الحكومة المركزية للمحافظات، فالتطبيق الناجح يؤدي حتمًا إلى الحد من البيروقراطية، وهذا ما تترقبه المجتمعات المحلية بعد لقاء حصن الشموخ العامر.
يظل التطبيق هو الهاجس الآن، فالرؤية السياسية واضحة نحو الرهانات على اللامركزية، وهي رؤية لمستقبل التنمية في بلادنا في ضوء التجربة التنموية السابقة، وقصورها في جوانب محددة في استيعاب استحقاقات كامل الجغرافيا العمانية، وقلنا في المقال سالف الذكر إنني أرجح المستقبل كخيار اللامركزية أكثر من الماضي، وذلك لمواجهة تحديات الانتقال في دور الدولة من الريعي إلى نظام الضرائب، ورفع الدعم الاجتماعي التقليدية، واحتواء الديموغرافيات المحليات، عبر جعلها شريكة في صناعة القرار التنموي، وهذه هندسة سياسية ستحول البوصلة الاجتماعية من المركزية إلى اللامركزية، أو من المطالبة الراسية إلى الأفقية، لكن رهانات المجتمعات المحلية الآن على التطبيق.
وأخيرًا نطرح التساؤلات التالي:
هل اللامركزية في زخمها السياسي الجديد تستوجب تأهيل أو تغيير الفاعلين للامركزيين؟ هل اللامركزية في أدوارها المعاصرة تستدعي إقامة إعلام «حكومي وخاص» إقليمي لخدمة التنمية الإقليمية وقضاياها، ويتكامل مع الإعلام الوطني المركزي؟ هل ينبغي رفع مستوى شروط إنتاج انتخاب أعضاء المجالس البلدية؟ هل ينبغي تعيين وزير للحكم المحلي؟ ربما تحتاج تلكم التساؤلات لوقفات تفصيلية لتوضيح أهميتها، ومدى ما تطرحه من بنيات أساسية داعمة لمسار اللامركزية، لكن، عناوينها حاملة للتوضيح والمعاني منذ الوهلة الأولى.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني متخصص في الشأن الخليجي