هوامش.. ومتون - هممٌ تحلّق عاليًا
قبل سنوات بعيدة، نال الشاعر حسن المطروشي جائزة الإبداع لأفضل إصدار شعري، وحين سألته مذيعة في حوار تلفزيوني عن مشاريعه المقبلة، أجاب: سأكتب ديوانًا جديدًا، لكي أفوز بنفس الجائزة في دورتها المقبلة، فظنّت المذيعة، والكثيرون ممن تابعوا الحوار أنه كان يمزح كعادته، لكنه أثبت لها، وللمتابعين في السنة اللاحقة، أنه كان جادًا، حين واصل الكتابة، والمشاركات، ودخول المنافسات، ونيل الجوائز، ويكفي أنه فاز بالجائزة نفسها أربع مرّات في دورات متعاقبة، إلى جانب جوائز أخرى خليجية، وعربية، ودولية، ليثبت صحّة المثل الإنجليزي "إذا كانت هناك إرادة، هناك طريق".
تذكّرت ذلك الجواب، الواثق، المعجون بقوّة الإرادة، والتصميم، حين حضرت الحفل الذي أقامته الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، ومشاهدتي المطروشي، وهو يعتلي المسرح ليتسلم جائزة أفضل إصدار شعري عن ديوانه (ليس في غرفتي شبح)، فلم يكن المطروشي، في جوابه للمذيعة، يرمي سهامًا طائشة في الهواء، متكئًا على نرجسيّة الشاعر في لحظة توهّج الذات، بل كان يتحدّث بثقة عالية؛ لأنّه وضع هدفًا واحدًا، ومحدّدًا، ساعيًا بكلّ ما يستطيع إلى تحقيقه، وترجمة مفرداته إلى أفعال، ووقائع، فواصل تنقيباته، وقراءاته، وتجاربه في الكتابة، كما ينبغي لواحد من أصحاب الهمم العالية، الذين هو منهم.
وكلّ من مشى في هذا الطريق يعرف حقيقة واضحة تتمثّل في أنّ الأهداف كلّما كانت بعيدة، تطلّبت هممًا عاليةً، وسلوك مسارات صعبة، فالوصول غالبًا ما يكون محفوفًا بالمخاطر، والتحدّيات، لكنّ أصحاب الهمم، يمضون قدمًا، لا يشغلهم غير بلوغ تلك الأهداف، وفي هذا السياق، يقال إن كافور الأخشيدي، قبل أن يحكم مصر، كان عبدًا، جلس ذات يوم مع صاحب له في سوق النخاسة، ينتظران سيدًا يشتريهما، فسأل كافور صاحبه عما سيفعل، وماذا يتمنّى، فأجاب: أتمنى أن أُباع إلى طباخ لآكل ما أشاء وقتما أشاء، وقال كافور: أمّا أنا، فسأحكم هذه البلاد، وتشاء الأقدار أن يباع صاحب كافور إلى طبّاخ، فيما بيع كافور لأحد قادة جيش مصر، فاجتهد، ونال إعجاب سيّده، فأدناه منه، فلما مات حلّ كافور مقامه، وصار قائدًا على جنود مصر جميعًا، ثم انقلب على الحاكم، وتولى مكانه، وذات يوم تذكر كافور صاحبه القديم، فمضى يبحث عنه، وأخيرًا وجده، فإذا هو يعمل عند طباخ كما تمنى، يأكل ويشرب، ويساعد الطبّاخ في عمله، فقال كافور لمن كان معه: "لقد قعدتْ بهذا همته، فكان كما ترون، وطارت بي همّتي، فصرتُ كما ترون، ولو جمعتني وإياه همة واحدة، لجمعنا مصير واحد!"
وحينما نجعل من التعلم هدفًا للحياة ننجح، في بلوغ ذلك الهدف، ولا غنى عن المداومة، والاجتهاد، والكدّ، ولا ضير من الوقوع في الأخطاء، وهنا يحضرني جواب أحد العلماء، حين سُئل: هل أخطأ في حياته العملية؟، فأجاب: "يمكن القول إنني عرفت الكثير من الخطوات التي لا تؤدي إلى الهدف، فتجنّبتها، فاقتربت من هدفي"، فالمهم، هو وضع الهدف، ويرى انشتاين "إذا أردت أن تعيش سعيدًا، اربط حياتك بهدف" ويجب أن يكون مرسومًا بدقّة، مصطحبًا معه عدّة كاملة، فهذه العدّة مطلوبة، وإلا صار "كساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح".
يتساءل الرصافي:
يا راجي الأمر لم يطلب له سببًا
كيف الرماية عن قوس بلا وتر؟
ومنذ أن عرفت المطروشي قبل أكثر من عشرين سنة، رأيته مولعًا برسم الأهداف بعيدة المدى، قاطعًا خطوات واثقة للأمام، متسلّحًا بموهبةٍ، وثقافةٍ، وسعةِ اطلاعٍ، متقبّلا للنقد، مستفيدًا من الملاحظات التي توجّه إليه، متمتّعًا بحسّ إنسانيّ عال، منطلقًا في فضاءات الجمال بروح وثّابة لا تعرف الكلل، والتراجع، متفانيا في سعيه نحو الأجمل، والأفضل، مخلصا لتلك الأهداف، وإذا كان المتصوفة يرون أن الإخلاص للهدف يتجسد في "الفناء بذات المحبوب"، ففناء المطروشي في عالمه الشعري الذي أخلص له، فاستحقّ الجوائز، وإطراء النقّاد، والدارسين، وإعجاب جمهور الشعر، ونيل أعلى المراتب في أوساط تحاول ثني تلك الهمم، يقول برنادشو" في كل مرة يرتفع شأن شخص في هذا العالم، سيكون هناك من يحاول أن يجرّه نحو الأسفل"، لكنّه لم يلتفت للوراء، ولم ينظر للأسفل، بل اعتاد أن يمضي للأمام، مهتديا بقول المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأيسر ما يمرّ به الوحول
لذا جاءت نجاحاته متلاحقة مدوّنًا اسمه في سجلّ أصحاب الهمم العالية.